الغدير والتيه والسجود
عندما يريد الإنسان عبادة الله على هواه
بقلم : نهاد الزركاني
تمهيد: الغدير… من أمر الله، وبروح الخلود
في كل تجلٍّ من تجليات الوحي، هناك لحظة تنبع لا من حاجة الأرض، بل من إرادة السماء. وفي كل أمرٍ إلهي، يكمن سرّ لا يُدرك بالعقل وحده، بل يُلامس في أعماق الروح.
حين سُئل النبي عن الروح، لم يُقدَّم جوابًا فلسفيًا، بل قالها القرآن بوضوح:
> “قل الروح من أمر ربي”
لأن بعض الحقائق لا تُشرح… بل تُوقَظ.
كذلك الغدير.
ليس حادثة في كتاب التاريخ، ولا مجرّد وصيّة سياسية أو مذهبية، بل هو ومضة من عالم الأمر، جاء ليختبر الإنسان في جوهر عبوديته:
> هل تعبد الله كما يأمرك، أم تعبده على ما يُوافق هواك؟
إن الغدير — بهذه القراءة — لا يُفهم إلا كصوت أزلي، يشبه “الروح” في غموضه وخلوده: لا يُقاس بمعايير السياسة، ولا يُختزل في جدال المذاهب.
بل هو نداءٌ من الله في الإنسان، لا يزول بانقضاء اللحظة، بل يظل يتردّد داخلك كلّما واجهت وصيّة تخالف ما ترتاح له نفسك.
> الغدير ليس “حدثًا”، بل دعوة من الروح إلى الروح، وامتحانٌ يتكرّر، بروح الخلود.
١. الغدير: مرآة الروح قبل أن يكون بيانًا للعقل
“من كنت مولاه، فهذا عليّ مولاه” — جملة لم تكن إعلان ولايةٍ لشخص، بل كانت انكشاف مرآة. مرآة يرى فيها الإنسان مقدار استعداده للطاعة حين تتعارض مع المألوف.
في لحظة الغدير، لم يُطلب من الناس أن يختاروا بين رجلين، بل أن يختاروا بين منطق السماء ومنطق العادة.
> كانت السماء تقول: هذا هو النور، فهل تتبعه؟
لكن كثيرين نظروا إلى النور بأعينهم لا بقلوبهم. فقاسوا الحق بالقبيلة، ووازنوا التكليف بالحسابات، وظنّوا أن بإمكانهم أن يحبّوا الله… ويؤجلوا وصيّته.
وهكذا، انكشف جوهر الابتلاء:
قد تصلي وتصوم، وتبكي في الدعاء، ولكنك حين تُبتلى بوصية لا تُرضي هواك، تختار ما تراه مناسبًا، لا ما أمر به الله.
في الغدير، لم يكن الابتلاء في محبة عليّ، بل في طاعته. لم يكن في مكانته، بل في قبول اختياره الإلهي، دون اعتراض، دون تأجيل، ودون تبرير.
> فالله لا يُعبد بالمزاج، بل يُعبد بالإذعان.
٢. التيه: حين تُستبدل الطاعة بالحيلة
التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يُعيد أسئلته. والتيه ليس فقط ضياع طريق، بل ضياع ميزان. يتكرّر التيه كلّما حاول الإنسان أن يلفّ ويدور حول أمرٍ إلهي، ليُجنّب نفسه خوض التجربة الكاملة للطاعة.
مثل بني إسرائيل الذين سُئلوا أن يذبحوا بقرة، فبدأوا يساومون: ما لونها؟ وما عمرها؟ حتى قست قلوبهم.
وهكذا كان الغدير.
من لم يُنكر النص، تذرّع بتأويله. ومن لم يعارضه علنًا، خفّف من حدّته، وجعله قصة تاريخية، لا وصية حاضرة.
> التيه هو أن تؤمن بالله، ثم تُخضع أمره للمفاوضة.
وهذا التيه لا يصنعه الجهل، بل تصنعه النفس الأمّارة، التي تخشى أن تفقد سلطتها، أو امتيازها، أو مألوفها.
إنّ لحظة الغدير كانت ميزانًا، لكن من رفض الوزن الحقيقي، لجأ إلى التلاعب بالمكيال.
٣. السجود: الطاعة أو التزييف
حين سجدت الملائكة لآدم، لم تكن تسجد له، بل لأمر الله فيه. وسقط إبليس، لا لأنه لم يعرف الله، بل لأنه رفض أن يسجد كما أمر الله.
> العبرة ليست في السجود… بل في الطاعة.
وكذلك من ادّعى الإسلام، ثم رفض وصية الغدير، لم يكن يرفض عليًا، بل يرفض أن يكون الأمر لله، لا لهواه.
فعبادة الله، إذا لم تُترجم إلى خضوع عملي، تكون عبادة شكل لا جوهر.
منطق إبليس ما زال يتكرّر:
> “أنا خيرٌ منه” — أنا أفقه، أنا أسبق، أنا أعرف المصلحة!
لكن الحقيقة تظل تصرخ في وجه هذا المنطق:((وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم))
خاتمة: عبادة الله لا تُجزَّأ
في الغدير، سُئل الإنسان سؤالًا لا يزول:
> هل تعبُد ربك كما يحب، أم تعبده كما تحب؟
وهذا السؤال يُعاد طرحه في كل وصية ثقيلة، وكل موقف غير مريح، وكل لحظة يُطلب فيها منك أن تُقدّم الطاعة على الراحة، والإذعان على الحيلة، والاتباع على التأويل.
الغدير ليس مذهبًا، بل ميزان صدق. والتيه ليس ظلمة الطريق، بل ظلمة النفس. والسجود ليس حُبًّا لله، إن لم يكن إذعانًا لمراده.
> فإن أردت أن تعبده، فلا تصنع لك إلهًا على مقاسك… بل كن عبدًا لله كما هو، لا كما تُريده أن يكون.