المشروع الذي يخلق الإنسان : في فلسفة الالتزام الرسالي
بقلم :: الكاتب المحامي نهاد الزركاني
في لقاءٍ رواه السيد طالب الرفاعي، عن جلسة جمعته بالسيد الشهيد محمد باقر الصدر، وردت عبارة تنمّ عن طبيعة العلاقة بين الإنسان والمشروع الرسالي. فقد قال له السيد الصدر، عندما أخبره بنيّته ترك العمل العام:
«يا ولدي… الإنسان لا يحمل المشروع، بل المشروع هو من يحمل الإنسان».
وقد نقل بعضهم هذه الفكرة في عبارة قريبة:
«هل رأيت إنسانًا عنده مشروع عمل يتركه؟ الإنسان إذا كان يحمل مشروعًا لا ينسحب، المشروع هو الذي يحمله، لا العكس».
هذه الكلمات ليست مجرد حكمة عابرة، ولا عبارة بلاغية، بل تعبير عن رؤية وجودية في فهم الإنسان لذاته، وفي علاقته بما يؤمن به من قضايا ومبادئ. في هذا التصور، لا يكون المشروع الرسالي أداةً في يد الإنسان يستخدمها حين يشاء، بل يتحوّل إلى فضاء يشكّله، ويعيد بناءه، ويمنحه معنى، حتى يتماهى فيه ويتلاشى فيه هوّيته الفردية لصالح هوّية أعمق: هوّية الرسالة.
في هذا الأفق، لا يعود الالتزام الرسالي اختيارًا حرًا بالمعنى العابر، بل يصبح تحقّقًا لجوهر الذات. فالإنسان لا “يستخدم” المشروع كما يستخدم وظيفة أو دورًا مؤقتًا، بل يجد ذاته وقد تشكّلت داخله. المشروع هنا ليس محمولًا بل حاملًا؛ لا يُعبّر الإنسان عنه فقط، بل يتنفسه، ويتحرّك به، ويندفع فيه إلى حد الفناء.
هذه الفكرة لم تقتصر على السيد الشهيد محمد باقر الصدر، بل طُرحت بصيغ قريبة على لسان بعض تلامذته ومن سار على نهجه، وإن اختلف التعبير. وقد بُني مشروع السيد الشهيد محمد صادق الصدر – وهو من أبرز تلامذة الصدر الأول – على هذا الفهم، حيث رأى أن المرجعية ليست موقعًا دينيًا بل دورًا تغييريًا، يستوجب الانغماس في واقع الأمة وتحمل آلامها.
أما المرجع الشيخ محمد اليعقوبي، الذي كان من أبرز تلامذة الشهيد الصدر الثاني، فقد واصل هذا الفهم الجوهري لفكرة الالتزام الرسالي، وإن لم نعثر على النص الحرفي: “من يحمل مشروعًا لا ينسحب منه كما يترك الإنسان وظيفته” في مصادر موثّقة، إلا أن المشروع الذي يطرحه ويقوده قائم على مركزية الإنسان الرسالي، بوصفه كائنًا متحوّلًا داخل بنية المشروع، لا خارجه. وهذا ما يُستشفّ من مضامين خطاباته التي ترفض التقاعس والتقاعد عن العمل في ميدان التغيير، ما دام المشروع حقًا، وسبيلًا إلى الله.
من هنا، تبرز مفارقة عميقة: المشروع الرسالي ليس مجرد التزام أخلاقي أو فكري، بل هو موقف وجودي. والفرق كبير بين من يرى المرجعية، أو أي موقع مسؤول، مساحة لإدارة الشأن الديني من برجٍ عالٍ، وبين من يذوب في مشروع يرى فيه خلاص الإنسان وتحرّره من كل صنوف الاستعباد. الأول يتحرّك داخل حسابات السياسة والواقع، والثاني يحرّكه الحلم بالعدالة، وشعور المسؤولية تجاه الغد.
ولعل أعظم تجليات هذه الفكرة هي حياة السيد الشهيد محمد باقر الصدر نفسه، الذي لم يعرف التراجع رغم إحاطته بالمخاطر، ولم يُبقِ لحياته الخاصة وزنًا أمام صوت الرسالة. ولذلك، وصفه بعض العلماء – لا عتابًا بل استغرابًا – بأنه “أهلك نفسه”، لأنهم لم يدركوا أن الشهيد الصدر لم يكن يملك خيار الانسحاب، فالمشروع القرآني كان هو الذي يحمله، لا رغباته ولا حذره ولا حساباته.
إن هذا الفهم يستوجب إعادة التفكير في مفهوم الرسالية ذاته. هل هو خيارٌ قابل للنكوص، أم قدرٌ نعيشه؟ هل الرسالة أداة نستخدمها في الحياة، أم حياةٌ تعيد تشكيلنا من الداخل؟
ليست هذه أسئلة نظرية، بل مصيرية، تحدّد مصير الإنسان في طريق الالتزام، وتفرز بين من يمضي حتى الرمق الأخير، ومن يتوقف عند أول مفترق تعب أو مصلحة أو شك.
خاتمة: بين المشروع والجيل – من الاحتراق إلى التحوّل
في ضوء هذا الفهم العميق للمشروع الرسالي بوصفه قوة وجودية تُشكّل الإنسان وتعيد صناعته، يصبح من الضروري أن نعيد النظر في طبيعة علاقتنا الحالية بالمشاريع النهضوية. كثيرٌ من الشباب اليوم، رغم حماستهم المبدئية، يتعاملون مع القضايا الكبرى كأنها محطات مؤقتة أو موجات موسمية؛ ما إن تصطدم بأول حاجز تعب أو إحباط أو غموض حتى تتآكل الاندفاعة، ويتحوّل “الرسالي” إلى مراقب سلبي، أو ناقد غير مبالٍ، أو منسحب ساخر.
لكن لو فهمنا المشروع على الطريقة التي طرحها الصدر، فلن يكون بوسعنا تركه كما نترك وظيفة أو مهمة تطوعية. فالمشروع، حين يكون حاملًا لا محمولًا، يصبح مرآة نرى فيها ذواتنا، ومختبرًا نعيد فيه بناء وجودنا، ومعنىً لا نستطيع الانفصال عنه دون أن نفقد شيئًا من إنسانيتنا.
ولهذا، فإن الارتباط بالمشروع الرسالي لا يجب أن يُختزل في الأشكال التنظيمية أو الخطابية، بل يجب أن يُفهم كتحوّل داخلي عميق، يحتاج إلى تهيئة نفسية وروحية وفكرية. ولا يكفي أن نتحدث عن “جيل رسالي” ما لم نساعد هذا الجيل على أن يرى المشروع بوصفه طريقًا للخلاص لا مجرد شعارات أو واجبات.
إن السؤال الأهم الذي يجب أن يطرحه كل شاب مهتم بالتغيير اليوم ليس: “ما هو المشروع الذي أؤمن به؟”، بل: “هل هذا المشروع يخلقني من جديد؟ هل يحمِلني في لحظات الضعف كما أحمله في لحظات الحماس؟ وهل أستطيع أن أفنى فيه دون أن أفقد ذاتي، بل لأجدها؟”
بهذا فقط ننتقل من مجرد “حمل المشاريع” إلى أن نُحمَل بها، ونُبعث من خلالها.