الغدير في…… نهج البلاغة :
حكمة الإمام بين لحظة الإعلان ومشروع الرسالة
بقلم :: المحامي والكاتب نهاد الزركاني
المقدمة
في بحر الخطابات الدينية والتاريخية، تتلألأ نهج البلاغة كمنارة فكرية تقودنا إلى فهم أعمق وأكثر اتزانًا لقضايا مفصلية في تاريخ الإسلام، ومن بينها قضية الغدير التي أُثير حولها الكثير من الجدل والتأويل. هذه القضية التي لم تكن مجرد حدث تاريخي عابر، بل كانت اختبارًا حقيقيًا لوعي الأمة واستعدادها لتحمل أمانة الرسالة.
في هذا الطرح، نغوص في عمق خطاب الإمام علي بن أبي طالب، لنكشف كيف أن غدير خم لم يكن مجرد إعلان سياسي صريح، بل أمانة مؤجلة، تعكس رؤية استراتيجية للحظة تاريخية معقدة، تجمع بين صمت العقل ونبض الزمن. وكيف أن هذه الأمانة ما زالت تنتظر وعي الأمة لتتحقق حقيقته.
المحور الأول: الغدير كخطاب فوق طاقة الوعي القبلي
يُثير غياب الغدير بوصفه سلاحًا حجاجيًا مباشرًا في نهج البلاغة تساؤلًا لافتًا، لا يُفهم إلا بقراءة الخلفية الاجتماعية والنفسية للعقل الجمعي الذي خُوطب في تلك المرحلة. فالمجتمع الذي عاصر الغدير لم يكن قد بلغ الإيمان الناضج، بل وقف عند حدّ الإسلام الظاهري، كما صرّحت الآية:
﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ [الحجرات: 14].
هذا يعني أن الخطاب الإلهي كان يتعامل مع بنية عقلية قَبَلية، تميل لتقديس العادة والزعامة لا الفكرة، وتنظر للدين كامتداد للسلطة لا كمشروع تحولي. وفي هذا السياق، أدرك الإمام علي أن الغدير كان فوق طاقة هذا الوعي، وأن المجادلة به لن تثمر، بل قد تؤدي إلى نتيجة عكسية تؤدي إلى ضياع أصل الرسالة.
ولذلك، لم يكن التغافل عن ذكر الغدير في نهج البلاغة ناتجًا عن تهاون، بل كان انعكاسًا لحكمة تحترم “زمن الرسالة” وتنتظر نضوج العقل الجمعي.
ومع ذلك، تُعدّ الخطبة الشقشقية استثناءً لافتًا في هذا السياق؛ إذ اقترب فيها الإمام من التعبير عن مظلوميته السياسية، لكن دون أن يُصرّح بالغدير أو يستشهد بحديث “من كنت مولاه”. ففي قوله: “أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى…”، يلمّح إلى حقٍ مغصوب يستند إلى معرفة داخلية لدى الخصم، لا إلى واقعة يُراد إثباتها لجمهور لم يتهيأ بعد لفهمها. وحتى في لحظة الغضب التي فجّر فيها شكايته، اختار الإمام التلميح دون التصريح، لأن الغدير في منطقه الرسالي لم يكن مجرد وثيقة احتجاج، بل أمانة تنتظر لحظة الفهم لا لحظة الخصومة.
المحور الثاني: حكمة الحُجّة وتعدد لغات الإقناع
رُوي عن الإمام علي قوله: “لو وُقِفْتُ على اليهود لحاكمتهم بالتوراة، وعلى النصارى لحاكمتهم بالإنجيل، وعلى المسلمين بالقرآن”. هذه المقولة تُظهر طبيعة الإمام الحجاجية المعرفية، وتكشف لنا بُعدًا جوهريًا في استراتيجياته الخطابية: أنه لا يُجادل بلغة واحدة، بل يختار اللغة التي يفهمها المخاط
فلو كان الغدير كافيًا في وعي المسلمين، لكان أقوى ما يُستشهد به. لكن الإمام – الذي لم يكن يغفل عن قيمة الغدير – يعلم أن خصومه سيؤولونه، ويخضعونه لتأويلات اجتماعية وسياسية. لذا اختار أن يُحاجج الأمة بما رسخ في ضميرها: مواقفه في بدر، وحكمته في الشورى، وعدله في الحكم، وحزمه في القضاء، وهي حجج يراها الناس لا يسمعونها فقط.
فخطابه لم يكن دفاعًا عن حق شخص، بل عن مشروع لم تتهيأ له النفوس بعد. إنه يُمارس فلسفة الدعوة لا منطق الغلبة.
المحور الثالث: من لحظة النص إلى أفق الرسالة
إن القراءة السطحية لموقف الإمام علي قد تُوهم البعض بأنه سكت، أو أنه استسلم للأمر الواقع، لكن القراءة الواعية تكشف أن صبره كان فعلًا رساليًا. فالإمام لم يتخلَّ عن الغدير، بل أرجأ لحظته حتى تنضج الأمة.
الزمن كان جزءًا من المعركة. أراد الإمام أن يزرع لا أن يحصد، أن يبني الوعي لا أن يركب الموج. فاستثمر لحظة الخلاف مع معاوية ليُظهر الفرق بين من يسعى للملك ومن يحمل الرسالة. ولهذا اختار الصمت في لحظة، والاحتجاج في لحظة أخرى، والسكوت السياسي حينًا، والتعبئة الروحية حينًا آخر.
لم تكن هذه تنازلات، بل خطوات داخل استراتيجية طويلة، جعلت من الغدير نهرًا تحت الأرض، لا يجري في ظاهر السياسة، بل في عمق الضمير، ليعود في المستقبل عندما تستحقه العقول.
الخاتمة
لقد حاول هذا الطرح أن ينقل الغدير من ساحة الجدل الطائفي إلى فضاء الوعي الرسالي، وأن يقرأ موقف الإمام علي لا كحالة انكفاء، بل كحكمة الوليّ الذي أدرك أن تأسيس الدولة العادلة لا يبدأ من القمة، بل من قناعة الناس بالحق، ومن نضج الأمة لقبوله.
إن الغدير لم يكن مجرد حدث تاريخي، بل تعبير عن لحظة تفوق فيها “الزمن الرسالي” على “الزمن السياسي”. لقد أراد الإمام أن تنتصر الفكرة لا السلطة، وأن تُؤسس الشرعية على الوعي لا على الغلبة، وهذا ما يجعل من الإمامة مشروعًا فلسفيًا يتجاوز اللحظة السياسية إلى أفقٍ حضاري، يشترط نضوج الأمة لا انقيادها.
إن هذا المقال لا يدعي أنه يُنهي الجدل، بل يفتح بابًا لتفكير جديد، حيث تصبح الإمامة مشروعًا معرفيًا-اجتماعيًا، لا مجرد خلاف تاريخي، وحيث يعود الغدير إلى مكانه الطبيعي: في عقل الأمة الإسلامية وضميرها الرسالي، كأمانة تنتظر لحظة الفهم لا لحظة الغلبة.