عندما نُصدّق الكذب : من العجز النفسي إلى التواطؤ الصامت
بقلم :: نهاد الزركاني من العراق / بغداد
في مقالة سابقة، تناولنا ملامح الخلل في بنية التنشئة الاجتماعية العربية، حيث ينشأ الفرد في بيئة تُكرّس الإلغاء بدل الحوار، والطاعة بدل النقد، والتلقين بدل الفهم. ورأينا كيف يُغذَّى العقل منذ الطفولة على أن لا يرى نفسه، وأن لا يثق بها، وأن يخشى الحرية والمسؤولية في آن. لكن الإشكال لا يتوقف عند حدود التربية، بل يمتد إلى ما هو أعمق: كيف نُدرك الكذب… ثم نُصدّقه؟
نعم، واحدة من أعقد أزمات الوعي في مجتمعاتنا، هي حين يتحوّل الكذب المفضوح إلى “حقيقة عامة” يعيش عليها الناس، ويتحركون بها، ويُدافعون عنها أحيانًا، لا لأنهم خُدعوا، بل لأنهم اختاروا، في لحظة ضعف داخلي أو تواطؤ جمعي، أن يُبقوا على الوهم حيًّا.
حين يُصبح الصمت تواطؤًا
في العراق، كما في سواه من البلدان العربية، تُلقى الخطابات السياسية المكررة، وتُعاد الوعود، ويُعاد تدوير الوجوه والمشاريع نفسها، بينما الشعب يعرف الحقيقة: لا أحد ينوي الإصلاح، ولا أحد يملك مشروعًا لإنقاذ البلاد من الفساد والتفكك. ومع ذلك، تسير الحياة السياسية على هذا النحو، لا لأن الحاكم أقوى من الشعب، بل لأن جزءًا من الشعب قد تعايش مع الكذب، وتماهى معه، حتى صار رفض الحقيقة أيسر من مواجهتها.
الهروب بدل المقاومة
هذا الواقع لا يمكن تفسيره فقط بالخوف أو الجهل، بل بالأعمق منهما: العجز النفسي. هناك رغبة دفينة لدى الإنسان المستلب في أن يُبرّر عجزه، فيُلقي اللوم على الواقع، أو الظروف، أو الخارج، لا لشيء إلا ليهرب من مواجهة ذاته. وهنا تظهر المفارقة: المجتمع يملك وعيًا، لكنه لا يملك “الإرادة”؛ يعرف، لكنه لا يفعل؛ يعترض داخليًّا، لكنه يطيع خارجيًّا. وكأنّنا أمام شعوب لا تنقصها المعرفة، بل الشجاعة في تحويلها إلى موقف.
مثال واقعي: قضية خور عبد الله
تجلّت هذه الإشكالية بوضوح في صمتٍ شعبي واسع أمام ما جرى في قضية خور عبد الله، حيث جرى التفريط بجزء من السيادة الوطنية لصالح تسويات سياسية وقانونية لا تخفى على أحد. لم يكن الناس يجهلون حقيقة ما يجري، بل إن الحقائق كانت واضحة، مدعومة بالوثائق والخرائط. ومع ذلك، لم تحدث هبّة وطنية بحجم الجرح. لماذا؟ لأننا، ببساطة، لم نعد نتحرك عندما نعلم، بل نكتفي بالتحسّر.
بين الاستبداد وقبول الضحية
لا أحد يحكم أمةً من دون أن تجد في داخلها من يقبل به، أو يصمت عليه، أو يبرّر وجوده. إن الاستبداد لا يعيش فقط على العنف، بل على هشاشة الداخل؛ على الانقسام، واللامبالاة، والخوف، والتطبيع مع الظلم. وهنا مكمن الخطورة: حين تتحوّل المجتمعات إلى بيئات حاضنة للباطل، لا لاقتناع، بل لتعوّد، ولعجزٍ عن التصدي.
من وهم التغيير إلى وعي الفعل
نُحب التغيير، نعم، نحلم به، نكتب عنه، لكننا في الغالب لا نُهيئ شروطه في ذواتنا. فما لم نربّ أبناءنا على الجرأة في النقد، وعلى استخدام عقولهم، وعلى احترام الذات والاختلاف، فسنظل نعيد إنتاج الضعف ذاته في كل جيل.
المعركة اليوم ليست فقط بين الشعوب وحكّامها، بل بين الشعوب وذواتها، بين الوعي الصامت والفعل الغائب، بين أن نعرف الحقيقة… وأن نجرؤ على تبنيها.