العبقرية اليافعة وحرج السلطان

الإمام الجواد والمناظرة الكبرى : العبقرية اليافعة وحرج السلطان
بقلم : المحامي والكاتب نهاد الزركاني
مقدمة
حين يُسأل فتى يافع عن أعقد مسائل الدين أمام بلاط السلطة، ويتفوّق، لا تكون الحادثة مجرد جدال علمي، بل إعلانًا عن خلخلة في مفاهيم الشرعية والمعرفة. مناظرة الإمام محمد الجواد (عليه السلام) مع يحيى بن أكثم ليست مسألة فقهية معزولة، بل تجربة كاشفة: هل الإمامة مقام غيبي لا يُناقش؟ أم موقع معرفي قابل للبرهنة؟ وماذا يفعل العقل حين يواجه عبقرية تسبق العمر وتُربك السلطان؟
أولًا: الإمامة والمعرفة – عبقرية تفكك السؤال
في بلاط المأمون، سأل قاضي القضاة يحيى بن أكثم الإمام الجواد: “ما تقول في مُحرم قتل صيدًا؟”، فكان رد الإمام أن السؤال “مُجمل، لا بدّ أن يُفصّل: أقتله في حلّ أو حرم؟ عالمًا كان أم جاهلًا؟ متعمدًا أم خطأ؟…هنا لم يجب الإمام فحسب، بل أعاد تشكيل السؤال نفسه، وفضح ضحالته المنهجية. لقد واجه فقه السلطة بأداة العقل التحليلي، فارتبك القاضي، وصمت البلاط.
هذا الرد يكشف مبدأً جوهريًا في المدرسة الإمامية: العلم ليس في تكديس الأجوبة، بل في تفكيك السؤال وإضاءة زواياه.
الدليل العقلي مزدوج:
1. الأعلم أحق بالإمامة – وقد ثبّت الإمام الجواد أحقّيته ببرهانٍ حيّ.
2. لا يُقاس النضج بالسنّ، بل بالقدرة على إحراج العقل الرسمي بمنهج هادئ.
ثانيًا: زواج السلطة من المعرفة – احتواء أم انكشاف؟حين قرر المأمون تزويج ابنته أم الفضل للإمام الجواد، لم يكن ذلك عن عاطفة، بل كجزء من سياسة احتواء التيار الإمامي. أدرك الخليفة خطورة هذا الشاب اليافع، الذي يمتلك سلطة رمزية، ويهدد شرعية المؤسسة الدينية بقدرة معرفية خارقة.الزواج كان فخًا سياسيًا، لكنه تحوّل إلى فشل استراتيجي. لم يندمج الإمام، ولم يُوظَّف، بل ظل مشروعًا مستقلًا يربك النظام.
المؤشر السياسي واضح:
المأمون احتاج شرعية تغطي جراح الخلاف الداخلي (قتل الأمين ومحاولة فرض الاعتزال).حاول شرعنة نفسه عبر المصاهرة، لكنه أنجب من خلالها خصمًا معرفيًا زاد حرج الدولة.
اعتراض بعض العباسيين بقولهم: “زوجته صبيًا لا عقل له” تحوّل إلى نكتة سوداء، بعدما أفحم الإمام كبار القوم في أول مناظرة علنية.
ثالثًا: إعادة تعريف الإمامة – من النص إلى البرهان مناظرة الإمام الجواد (عليه السلام ) لا تُثبت فقط علمه، بل تُعيد تعريف الإمامة بوصفها مقامًا برهانيًا، لا مجرّد وراثة.
الإمام (ع) لا يتكئ على كونه “ابنًا لفلان”، بل على ملكة تحليلية تُفحم القضاة، ووعيٍ فلسفي يُناظر ويُفكك، لا يردد أو يتبع.
قال الإمام الصادق (ع): “إنما يُعبد الله بالعقل”. الجواد جسّد هذه المقولة: فتى لم يُكلَّف بالرسالة، لكنه يُمتحن كمن يحملها.لم يكن نبيًا، لكنه يقف على منصة الأنبياء في دقة الجواب واتساع الرؤية.لم يملك جيشًا، لكنه هزم فكر السلطة بحجة واحدة.
خاتمة: العبقرية اليافعة… الحجة الناطقة
هذه المناظرة ليست فصلًا في كتاب التراث، بل نموذج في إدارة المعرفة، وتحدي الأطر التقليدية للشرعية. إنها لحظة فارقة يُظهر فيها شاب يافع أن السلطة لا تصنع القيمة، والمعرفة لا تُقاس بالعمر.
الإمام الجواد قدّم برهانًا حيًّا على أن الإمامة عقلٌ موصول بالسماء، ومشروع نهضة عقلية في وجه الفقه الرسمي.

فهل نكتفي بتوريث الإيمان كما تُورَّث العادات، أم نعيد تشكيل العلاقة بين العقل والوحي، كما أرادها الجواد عليه السلام: حوارًا لا خضوعًا، وفهمًا لا تكرارًا ؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات