غديرنا المنتظر

 

إستيقظت وفاء  لصلاة الفجر  بنشاط لم تعهده سابقاً،  فهي غالباً ما تنهض متثاقلة بعد يوم شاق ومتعب ليس تعب جسدي بقدر ما هو منهك لتلك المشاعر المرهفة وهي ترى معاناة كبار السن.. فذاك قد هجره ابناؤه …وهذه قد وجدت نفسها في الشارع بلا سكن بسبب حبائل الشيطان ومكائده ومشاكل لاحصر لها..وووو..  حسب مايقتضيه عملها في دار رعاية المسنين  .. نهضت بحذر خوف ايقاظ طفلتها غدير التي أنهكها فقدان والدها فباتت تتعلّق بأمها اكثر واكثر لعلها تجد في أحضان الأم  وبين أضلعها ذاك الشهيد الفقيد فتغفو كملاك بعد ان تروي لها قصة من قصص بطولاته مما يجعله قريباً جداً عليهما ..بل كأنه مازال يعيش بينهما ومايزال عبق الأبوة يغشيهما ويستمدان منه النور والأمل …صلّت فرضها وأدّت زيارة عن بعد لأمير المؤمنين هذا  الأب الرؤوف الثاني لهذه الأمة وراحت تبث شكواها في هذا اليوم المبارك وتطلب هدية عيد فهو ليس اي عيد بل هو عيد الله الاكبر من هذا الأب الرباني ..ثم جلست تتلو بضع آيات تستفتح بها خير هذا اليوم وتستنزل رزق السماء لفقرها وفاقتها له ..وتلت من قوله تعالى { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.. }
ثم ارتدت ملابس العمل مجللة بالستر والعفاف ونظرت وفاء في مرأة قديمة كَقِدَم جراحات زوجة الشهيد .. بل هي مرآة تحمل معها ذكريات حبها الوحيد فهي كلما نظرت في هذه القطعة التي تعتبرها بمثابة تراث حياة كاملة وتعدل الف عمر وعمر لأنها ترى فيها حياتها المقترنة بتوأم الروح  الذي يحمل بين عضلاته المفتولة وقلبه الوفي لأميرته الحبيبة عنفوان الشباب و غيرة جيل كامل..قد لبى نداء السماء وما كان منها الا ان أيّدت حبيبها وشجعته بل قدمته طائعة متأسية بمولاتها الحوراء عليها السلام ولم تجد اغلى منه قربانا للشرف والعقيدة … وبقيت بعده وحيدة تؤنس وحشتها بتلك الملاك التي وهبها قبل رحيله واودع فيها تلك الملامح التي طالما أسرت قلبها الصغير وأوقعتها بحبه فجعلتها تفارق الاهل والاحباب لتعيش معه في مكان يبعد عن مسقط رأسها مئات الكيلومترات ..نعم ..لقد باعت أخر قطعة ذهبية كانت تملكها لكي تعيل نفسها وطفلتها ..فلا يكفيها ماتجنيه من اجر لعملها الذي لم تناله الا بشق الانفس..
يارب .. ان حملي صغير لكنه ثقيل كيف اتدبر امري ؟ بل كيف اؤمن مستقبل إبنتي واليُتم يغشاها بل يغشاني معها لفقدي السند والمدد..؟!!.وهي في هذه الحالة غارقة بين تنهيدة صبر وابتسامة ذكرى عاشتها تعدل الف عمر وعمر فإذا بها يتناهى الى سمعها صوت ملائكي يغرّد.. جعل قلبها يرتعش خشوعاً وايماناً ..
وهو يرتل تماماً ماتلته من آيات الذكر آنفا فإذا بطفلتها غدير مستيقظة تنظر لها وهي تردد تلك الكلمات القدسية ..امتلئ قلبها سروراً ..وقالت ..حبيبتي ماهذا كيف تمكنت من حفظ تلك الأيات !!؟؟
هيا رتّلي وأسمعيني !!
أماه لقد حفظت كل ماتردديه يومياً من القرآن الكريم لأنني أحب أن أهديه لأبي ولست فقط أُقلدك بالصلاة !!
احسنت حبيبتي وهذا عهدي بكِ والآن سوف احضر لنا افطاراً حتى نذهب للعمل انا ومساعدتي الماهرة واحتضنتها واضعة رأسها على صدر ابنتها الرقيق الرحيب !!
فتسألت  غدير  بدلع الطفولة المعهودة منها  : أماه
لماذا اسميتموني غدير ؟ حبيبتي ..وهي ماتزال تشم جِيد طفلتها بحب ولهفة وكأنها احتضنت روح الشهيد فظلت تتنعم هانئة بكف صغيرة تعبث وتسرّح خصلات شعرها برقة وحنان..
بنيتي انّه تيمناً بهذا اليوم المبارك فقبل ستة أعوام في مثل هذا اليوم وُلِدتِ فحملك أبوك بين ذراعيه مسرعاً وأصرَّ ان يذهب لزيارة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام )ويجدد العهد معه قبل ان يلتحق لإداء الواجب وقال له سيدي يا أمير المؤمنين هذه أبنتي وأمها أمانة بين يديك إن أنا رُزقت الشهادة مولاي  أحفظهما ولاتعوزهما لشرار الناس واجعلهما تحت ظلال الولاية حتى المُلتقى ..
فمن يومها تعاهدنا سوية ان نردد دوما تلك الأية المباركة كلما ضاقت بنا الاحوال ورغبنا ان نضع بين يدي إمامنا الآمال ..
وها أنتِ حبيبتي قد دخلتِ العهد معنا اليوم ..وقبلتها بين عينيها ..
اكملتا افطارهما سوية ورتبت غرفتها سريعاً واطفأت انوار الغرفة واقفلت الباب لتجد في إنتظارها الحاج مهدي مديرها في دار المسنين واقفاً ينتظرها ..
فبادرها بالقول : أين انتِ يا أُم غدير اليوم  يوم عيد و سرور ولم تنم عيني من الفرحة والله كنت اعدّ الساعات حتى اراكما وابشركما ..كما تعلمين قد هيئنا سوية مهرجان لتوزيع جوائز وهدايا على المقيمين والمقيمات في هذه الدار وانا قد احضرت لكِ هديتكِ انت اولاً بل هي هدية الملاك غدير !!
غمرتها الفرحة ولم تتفوه بكلمة ..
لكن غدير قالت بصوتها الملائكي
ماذا احضرت لنا ياعم ؟
فأخرج من جيب سترته مفتاحاً تعلقت به ميدالية قد نُقش عليها “شهداؤنا فخرنا وأهلهم في اعناقنا” .. هذا مفتاح بيتكما وجنّتكما ولن يؤلمكما العوز ثانية مادمنا نستنشق عبق الشهادة بيننا
لم تتمكن من نطق كلمات الشكر لكن انهمرت من عيناها حروف الإمتنان لتعانق إبتهالات الفجر في صباح عيد غدير ينتظر عيد الأمل المنشود وشمس الحقيقة لبقية الله في ارضه ..

✍ بقلم : الحاجة بتول محمد أحمد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات