الحلقة الأولى: جذور الإبادة في العراق الحديث من الفكر القومي إلى الفعل الدموي
بقلم :: نهاد الزرگاني
مقدمة: التحول من الضحية إلى الشريك في الجريمة
في تاريخ العراق الحديث، لا تقتصر مآسي الإبادة على مجرد أحداث تاريخية معزولة، بل هي جزء من سلسلة متواصلة من العنف الذي تخلل المجتمع العراقي، وارتبط بنظم حكم طغت على ضمائر الأفراد والمجموعات. هذا العنف لم يكن محصورًا في طغاة بعينهم، بل كان تعبيرًا عن حالة اجتماعية ونفسية معقدة نشأت وتطورت في بيئة قاسية مليئة بالظلم والفقر والتطرف الفكري. ما يميز هذه الحقبات المظلمة هو تحول الضحية إلى شريك في الجريمة، حيث أصبح المجتمع في كثير من الأحيان مشاركًا في الإبادة من خلال تقبل خطاب الطغاة واعتباره “طبيعيًا”.
أطرح هنا رؤية تفكك المشاركة العراقية في إبادة الأرمن ضمن سياقها العثماني، لا من باب الإدانة فحسب، بل لفهم التحولات التي جعلت من الإنسان أداة في يد الطغيان. تمثل إبادة الأرمن مثالًا حيًا على هذه المشاركة غير المباشرة في الجريمة الكبرى التي ارتكبتها الدولة العثمانية، والتي ساهم فيها العديد من العراقيين في مواقع مختلفة. كانت إبادة الأرمن جزءًا من نمط طويل من القتل الجماعي الذي أصبح سمة بارزة في الأنظمة التي حكمت العراق، وهو ما يعكس تحولات خطيرة في التركيبة الاجتماعية والسياسية للبلاد.
إبادة الأرمن: عراقٌ شريك في المذبحة
في عام 1915، شهدت الإمبراطورية العثمانية أحد أبشع أعمال الإبادة في التاريخ الحديث، والتي استهدفت الأرمن، حيث قُتل أكثر من 1.5 مليون أرمني. رغم أن المجزرة تمت تحت إشراف السلطات العثمانية في الأناضول، إلا أن العديد من الجنود والضباط العراقيين الذين كانوا يخدمون في الجيش العثماني كانوا جزءًا من هذه الجريمة. كانت القوات العثمانية المنتشرة في الأراضي العراقية تأتمر بأوامر السلطنة، وساهمت في عمليات القتل والتطهير العرقي للأرمن.
مشاركة العراقيين في هذه الإبادة تعكس حالة اللامبالاة أو التواطؤ التي كانت تسود في ذلك الوقت. ففي خضم الحرب العالمية الأولى، كان العراق يشهد نوعًا من السيطرة العثمانية العسكرية، والانصياع لأوامر السلطنة لم يكن مجرد فعل سياسي، بل كان يُنظر إليه كواجب وطني. ولعل المجزرة الأرمنية كانت بداية لمرحلة من القتل المنظم والمقنن الذي أصبح لاحقًا سمةً مميزة في الأنظمة التي حكمت العراق.
أسباب اجتماعية ونفسية للمشاركة في الإبادة
حين نبحث عن الأسباب التي دفعت المجتمع العراقي، في بعض الأحيان، للمشاركة أو الصمت على الإبادة التي مورست ضد الأرمن وأقليات أخرى، نجد أن هناك عدة عوامل اجتماعية ونفسية تداخلت ونتج عنها هذه الظاهرة:
1. الناس على دين ملوكها: غياب الوعي الفردي وتماهى الجماعة مع السلطة عندما تبنت الدولة العثمانية خطابًا قوميًّا يشيطن الأرمن ويصفهم “بالطابور الخامس” أو “الخونة”، كان ذلك بمثابة تبرير للجريمة. العقل الجمعي، في تلك الفترة، كان قد تماهى مع هذه الرواية إلى درجة أنه بدأ يبرر القتل والتدمير كوسيلة للوحدة القومية.
2. ظاهرة الظلم المستمر: كيف يساهم الظلم في تحول الإنسان إلى آلة قاسية؟ الإنسان الذي يظل في حالة من العذاب المستمر قد يتحول تدريجيًا إلى شخص قاسي، لا يتعاطف مع معاناة الآخرين، بل في بعض الأحيان قد يشعر بارتياح داخلي لرؤية معاناة الآخرين كأنها نوع من التوازن للظلم الذي عاشه هو في صمت.
3. الفقر والتجويع: هل يمكن أن يكون الجوع محركًا للشر؟ حين كان الجنود أو المدنيون يُعرضون على مكافآت مقابل المشاركة في تهجير الأرمن أو التبليغ عنهم، كانت هذه المكافآت تساهم في تعزيز اللامبالاة الإنسانية.
4. غياب الرمز النبوي: كيف أثر غياب المثال الإنساني في التحولات الاجتماعية؟ في تلك الحقبة، غاب نموذج الرحمة الذي جسده رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم)، الذي يمثل العدالة والرحمة في أسمى صورها. تحول الدين إلى مجرد أداة سياسية يتم استخدامها لترسيخ النظام الحاكم.
5. النموذج الإقليمي الدموي: كيف تشكلت العقلية الإبادية في سياق إقليمي؟ في سياق إقليمي يعج بالمجازر والصراعات، مثل تلك التي كانت تحدث في البلقان، والشام، والبلاد العربية الأخرى، بدأ العنف يصبح سمة من سمات التفاعلات السياسية.
التحليل النهائي: هل يمكن أن نغسل أيدينا من هذا التاريخ؟
إن الأسئلة التي تطرح نفسها الآن هي: هل يمكن التخلص من هذه الإرث الدموي؟ وهل من الممكن بناء مجتمع جديد يتعاطف مع الضحية ويقف في وجه الظلم؟ يظل الجواب مرتبطًا بالوعي الجمعي الذي يجب أن يعاد بناؤه على أسس من العدالة والرحمة. العراق يحتاج إلى إعادة تعريف قيمه الاجتماعية، واستعادة النموذج النبوي الذي يعزز الرحمة والتعاطف.
الحقيقة المؤلمة هي أن التاريخ لن يمحو نفسه. الشر لا يموت إلا عندما نتعامل مع جذوره بوعي نقدي، وعندما نعيد بناء فكر الأجيال القادمة على قيم إنسانية حقيقية.
خاتمة
إن الواقع العراقي لا يزال يعاني من آثار هذا التاريخ الدموي. لكن تغيير عقليتنا الجماعية يتطلب جهدًا طويلًا، يبدأ من إعادة صياغة الوعي الاجتماعي والفكري. إذا أردنا أن نغسل أيدينا من هذا الشر المتراكم عبر الأجيال، فعلينا أولاً أن نتعرف عليه، ونواجهه، ثم نبني مجتمعًا جديدًا قائمًا على الرحمة والعدالة.