جذور الإبادة في العراق الحديث
الحلقة السادسة: من تقديس السلطان إلى تصديق المحتل – البنية النفسية للقبول والخذلان
بقلم : : نهاد الزركاني
لم تكن لحظة دخول البريطانيين من الفاو إلى بغداد عام 1914 مجرّد احتلال كلاسيكي في سياق الصراعات الإمبريالية، بل كانت تتويجًا لانهيار داخلي عميق، وانكشاف لبنية ثقافية ونفسية مهدت لهذا السقوط. لقد بدأت الإبادة الرمزية للعراق الحديث قبل الاحتلال بسنوات، حين تحولت مفاهيم الطاعة إلى قيود، والدين إلى أداة تطويع، والسلطان إلى ظلٍّ يُقدّس رغم ظلمه، ثم جاءت الجيوش الأجنبية لتقطف ثمار ما فعله الاستبداد المحلي.
المحور الأول: على أي قانون كان العراق يُدار؟
في غياب دستور مدني حقيقي، كانت الدولة العثمانية تحكم العراق عبر أوامر صادرة من “الباب العالي” في إسطنبول، الذي مثّل قلب القرار السلطاني، وفيه تجتمع السلطتان، الدينية والدنيوية. وكان السلطان عبد الحميد الثاني – في نهايات العهد – هو المرجعية العليا، يُنفّذ أوامره الوالي المحلي في بغداد أو البصرة دون نقاش.
القوانين كانت انتقائية، يُنفّذ منها ما يخدم مركزية السلطنة ويكبت الهويات المحلية، أما العقوبات فكانت غالبًا انعكاسًا لأهواء الباب العالي، لا لعدالة تشريعية. وهذا ما جعل الهوية القانونية للعراق العثماني مشوشة، ومرتبطة بشكل كامل برضا السلطة في إسطنبول، لا بإرادة الناس أو حقوقهم.
المحور الثاني: تموضع القوات البريطانية وتحركاتها
حين قررت بريطانيا دخول العراق عبر الفاو، كان ذلك بدافع استراتيجي واضح: تأمين خط الملاحة نحو الهند، والسيطرة على موارد العراق، ولاحقًا النفط. لكن هذا الدخول لم يكن ممكنًا دون دعم لوجستي محلي من بعض العشائر، ووجود شبكة مصالح اقتصادية وتجارية مهدت الطريق.
القوات البريطانية ركزت انتشارها في البصرة أولًا، ثم تقدمت شمالًا باتجاه العمارة والناصرية، حتى وصلت بغداد في 1917. وقد أقيمت معسكرات كبرى في منطقة الشعيبة قرب البصرة، وتم نقل المعدات العسكرية عبر البحر من بومباي وعدن، بدعم من عملاء محليين وتجار كانوا يطمحون لاستبدال الهيمنة العثمانية بأخرى توفر لهم مصالح مباشرة.
المحور الثالث: لماذا دعمت بريطانيا انفصال الكويت؟
في عام 1899، وقّع مبارك الصباح اتفاقية الحماية البريطانية التي ضمنت فصله عن ولاية البصرة، رغم أن الكويت كانت امتدادًا طبيعيًا لها جغرافيًا وتاريخيًا. ورغم أن العراق كان أكثر غنى من الخليج، فإن بريطانيا فضلت دعم الكيانات الصغيرة كالكويت والبحرين وقطر، لأنها أضعف، وأسهل في التحكم، وتفتقر إلى الإرادة السياسية المركزية.
المصالح البريطانية لم تكن فقط اقتصادية، بل استراتيجية:
تقطيع أوصال العراق لمنع تشكّل قوة إقليمية كبرى.
ضمان ولاء شيوخ الخليج عبر الحماية.
حرمان العراق من منفذ بحري واسع يهدد هيمنة البريطانيين.
المحور الرابع: الفكر السني الكلاسيكي وتحييد الشارع
رغم ما فعله العثمانيون من قمع وفساد وتهميش، لم ينهض الشارع السني ضدهم، لأن الفقه التقليدي السائد كان يؤصّل لفكرة “عدم جواز الخروج على الحاكم”، حتى وإن كان جائرًا.
نصوص مثل “اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك” شكّلت جدارًا من الصمت، أقوى من أي شرطة سرية.
وحين قامت محاولات للتمرّد أو المطالبة بالإصلاح، واجهها الفقهاء باتهامات الفتنة والضلال.
وهنا يظهر نوع من الإبادة غير المرئية: إبادة القدرة على الاعتراض، على الرفض، على الغضب.
في بغداد، وفي النجف كذلك، كانت المساجد تمتلئ بالخطب التي تدعو للصبر والطاعة، لا للمقاومة. وعندما أُعدم علماء عرب على يد العثمانيين في دير الزور أو دمشق، لم ترتجف المنابر، بل وُجدت تبريرات “درء الفتنة”، في حين أن الاحتلال البريطاني حين دخل البصرة، لم يواجه مقاومة بحجم التراكم التاريخي من الظلم، لأن الناس فقدوا الإيمان بإمكانية التغيير.
المحور الخامس: الشرف الحسين والتهيئة الفكرية للاحتلال
في سياق الحرب العالمية الأولى، كانت المخابرات البريطانية (وخاصة لورنس العرب) تعمل على بناء صورة جديدة للحكم، بعيدًا عن الإسلام العثماني. وهكذا تم تأهيل الشريف حسين فكريًا ليكون رأس مشروع قومي عربي ضد السلطنة، مستغلين الحلم العربي بالتحرر، لتحويله إلى أداة في يد الاحتلال.
لقد كان الفكر القومي الناشئ مدفوعًا بظلم السلطنة، لكنه افتقر إلى الاستقلال الحقيقي، وتحول إلى معبر لعبور المحتل. وهكذا، انتقلنا من تقديس السلطان إلى تصديق المحتل، دون أن نبني مشروعًا حقيقيًا للحرية.
المحور السادس: الفلسفة العميقة للهزيمة – حين يُقتل العقل قبل الجسد
إن أخطر أنواع الإبادة لا تتم بالسلاح وحده، بل عبر الهيمنة على المخيال الجماعي.
حين يتحول الدين إلى فقه طاعة مطلقة، والمجتمع إلى جمهور خانع، والثورة إلى فتنة، فإن الاحتلال يصبح نتيجة منطقية.
من الفاو إلى بغداد، لم تسقط المدن فقط، بل سقطت منظومة المعنى.
منذ أن أصبح السلطان ظلًّا لله لا يُسأل عما يفعل، بدأ موت الحرية.
وحين استُبدل هذا السلطان بجنرال بريطاني يرتدي ربطة عنق، لم يشعر الناس بأن شيئًا تغير.
وهكذا، كانت الإبادة الكبرى: إبادة الإنسان من داخله.
فلا حرية لمن يعبد الحاكم، ولا كرامة لمن يبرر الظلم باسم القدر، ولا سيادة لشعب ينتظر تحريره من خارج حدوده.