من الذي يسقط من الغربال؟

 

من التصوراتِ السطحية لقيام دولة العدل الإلهي المُنتظَرَة، هو أن يكون قيام خارج عن السنن الإلهية، ومن مصاديق هذه النظرة، إنه قيام بظهور صاحب الزمان(عجل الله فرجه)، وعدد من القادة والمؤازرين، دون التفكير والسعي في أن تكون منهم، ولهذا التفكير أسباب من جملتها: اليأس، وسهولة هذه النظرة، فمن أهم مقدمات التمهيد لهذه الدولة، هو تغيير هذه النظرة، والتصدي لها بقوة، وقد أشار الله سبحانه لهذه الحقيقة في كتابه العزيز بقوله تعالى:{فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}(١)، فهو قيام لن يخرج على الأطلاق عن هذه القواعد، والتحرك نحو هذه الحقيقة يدفع المُنتظِر نحو تفكير أعمق، باحثا عن مسؤوليته في التمهيد، وعن دوره عند الظهور، ويسعى بشكل مستمر، ويبحث عن إجابة لأسئلته، وصولا إلى معرفة دوره، مُتحركا ضمن توجيهات تلك السنن الالهية وروايات العترة الطاهرة، حتى يكون إيمانه مستندا على دعائم رصينة، ومن تلك التساؤلات التي ترد في ذهن المُنتظر: ” كيف النجاة؟، وما السبيل؟، ومن سيسقط من الغربال؟، وسيكون التركيز في هذا المقال على السؤال الأخير لأهميته في زمن الغيبة، فقد روي عن ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام)إنه قال: “ويل لطغاة العرب، من أمر قد اقترب، قلت: جعلت فداك كم مع القائم من العرب؟ قال: نفر يسير، قلت: والله إن من يصف هذا الامر منهم لكثير، قال: لا بد للناس من أن يمحصوا ويميزوا ويغربلوا، ويستخرج في الغربال خلق كثير”(٢).
وقبل البدأ في معرفة المقدمات التي ستصل بهم إلى هذه النتيجة، لابد من الاستعداد لمضّلات الفتن، لإن التمحيص يتحقق بمرور المؤمنين بعدة أختبارات وابتلاءات، لعزل المنافقين عن المؤمنين، ففي الإدعاء وفي الحالات العادية كل الناس يَحسبون أنفسهم صالحين، وعند المرور بهذه الامتحانات مع هجوم الغرائز، ومعرفة الشيطان بتلك الثغرة الضعيفة الخاصة بالمؤمن؛ عندها يقع الأختبار.
فالنتيجة؛ إن هناك من يكون البلاء سبباً لمعرفته بتلك الثغرة، ويسعى إلى اصلاحها ويرتقي بها، وهناك من يؤدي به البلاء إلى الضلال، ومن أهمِ السُبل للنجاة هو الوقوف على أسباب السقوط من الغربال، ومن أخطرها السببان الآتيان:

١- حب الرئاسة: وخطورتها تتجلى في التعمد على إخفائها في عمق نفس الإنسان لكونها ذنبا قلبيا، بالأخص من يمتلك مكانة اجتماعية، وتكون في البدأ ثغرة، فإذا عرف الشيطان إنها نقطة الضعف عمل على تكبيرها، لتكون مكانا مقدسا، تُهاجم كل من اقترب نحوها.
ومن علامات المُبتلى بهذه المهلكة: الثقل في إرشاد غيره إلى من هو أعلم منه، وإنتقاص الآخرين بسلوكياتهم فإن لم يجد أتهمهم بنواياهم، ليرفع نفسه، خصوصا عندما يشعر باقتراب شخص من مكانته، ويحتمل أن يأخذها منه، ويصنع لنفسه أهمية غير حقيقية، كإدعاء مواعيد واتصالات كاذبة ليُشعر الناس بأهميته، وعند تشخيص وجود هذه العلامات في النفس لابد من الوقوف عليها وبإصرار، قبل أن تكبر هذه الثغرة، وتصير مكانا لا يضيق على الشيطان لطول مكثه فيه، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله:”اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لاَِمْرِهِمْ مِلاَكاً، وَاتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً، فَبَاضَ وَفَرَّخَ في صُدُورِهِمْ، وَدَبَّ وَدَرَجَ في حُجُورِهِمْ”(٣). فكل ما يخفيه الإنسان سيكون سببا في مصيره وعاقبته، روي عن رسول الله(صلى الله عليه واله): “ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير وإن شرا فشر”(٤)، فعلى الإنسان إن يتفكر إن لذة هذه المهلكة ايام قليلة وعاقبتها هلاك أبدي، ثم إن القلوب بيد الله سبحانه، فقط ينبغي أن يكون العمل له وحده. عن الإمام علي (عليه السلام): “من حسنت سريرته، حسنت علانيته”(٥)، وعلامة السلامة من هذه المهلكة؛ هي حب العمل والرغبة في تطوره لذاته، وإن قام به غيره، تحملاً للمسؤولية لا حباً للرئاسة.

٢- التولّي لأعداء أهل البيت(عليهم السلام) والتبرؤ من أوليائهم: فعن الامام الرضا(عليه السلام):” إن ممن ينتحل مودتنا أهل البيت من هو أشد فتنة على شيعتنا من الدجال، فسُئل الامام: بماذا يُفتَنون؟ قال: بموالاة أعدائنا، ومعاداة أوليائنا إنه إذا كان كذلك اختلط الحق بالباطل، واشتبه الامر فلم يعرف مؤمن من منافق”(٦)، وخطورة هذه المُهلكة هي عدم الإلتفات إلى مقدماتها المؤدية إلى الخذلان.
ومن المقدمات الخطيرة لموالاة أعداء أهل البيت هو الأنبهار بنمط الحياة المادي السطحي لهم؛ لِضعف الروحانية، وحباً بالراحة المادية، فمن لديه هذا الميل إذا لم يقو روحانيته، سيشعر بالدونية تجاه القوة الوهمية التي يمتلكها الطرف الآخر ويضعف إنتماؤه، ويكون سهل الانقياد لجبهة المنكرين لله تعالى من حيث لا يشعر.
ومن مقدمات التبرؤ من أولياء أهل البيت(عليهم السلام) هو التعصب والإنفصالية عن من هم مشتركون معه بنفس العقيدة وهي ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام ) ولعل أبرزها وأشدها ما يعانيه المجتمع في مسألة

التقليد وتعدد المراجع، فلا أحد من الفقهاء يقول بوحدة المرجعية، فهي متعددة في زمن الغيبة لكن توجد ضوابط في اختيار مرجع التقليد، فهذا الأمر لابد من بيانه من قِبل المتصدين للمجتمع، فمن شأنه ان يُخفف نزعة الانفصالية، وقبل ان يؤدي بالمؤمن إلى التخلي عن ولاية رسول الله محمد وآله الطيبين الطاهرين، روي عن الأمام زين العابدين(عليه السلام): “فاتقوا الله عباد الله، وإياكم والذنوب التي قلّما أصرّ عليها صاحبها، إلا أداه إلى الخذلان المؤدي إلى الخروج عن ولاية محمد (صلى آلله عليه واله)،… قالوا: يا بن رسول الله !.. ما الذنوب المؤدية إلى الخذلان العظيم ؟.. قال: ظلمكم لإخوانكم الذين هم لكم في تفضيل عليّ (عليه السلام)”(٧)،
والمقصود ظلم من يوالي أمير المؤمنين(عليه السلام).

أذن بالوقوف على هذه الأسباب وأشباهها، يكون السبيل للنجاة، لان مضلات الفتن رهينة لمُسبباتها، كما أشارت الأحاديث إلى ذلك،
منها قول أمير المؤمنين(عليه السلام): ” أيها الناس إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع،..”(٨)، وطلب العون من الله سبحانه في ذلك، بالتمسك بالثقلين كتاب الله والعترة الطاهرة، وتحريك العقل ببعض الأدعية، ومنها دعاء مكارم الاخلاق، بوضع النفس في ميزان فقراته، لِيعرف المؤمن الحق حقاً فيتبعه، والباطل باطلاً ليجتنبه.

المصادر:
١- سورة فاطر آية(٤٣).
٢- الكافي- للكليني- الجزء ١.
٣-كتاب نهج البلاغة- الشريف الرضي.
٤-ميزان الحكمة- محمد الريشهري- الجزء ٢.
ه- ميزان الحكمة- محمد الريشهري- الجزء ٢.
٦- صفات الشيعة- للشيخ الصدوق.
٧- جواهر البحار- الشيخ حبيب الكاظمي- المجلد الرابع(باب العِشرة).
٨- الكافي- للكليني- جزء ١.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات