جذور الإبادة في العراق الحديث

بقلم :: نهاد الزركاني
الحلقة الخامسة: الوطن كقناع للعرش – كيف خُدع الشعب باسم الوطنية؟
في هذه الحلقة، نغوص في لحظة مفصلية من التاريخ العراقي الحديث، لحظة أُريد لها أن تبدو مجيدة، لكنها كانت في جوهرها لحظة خداع تاريخي ممنهج: تأسيس مفهوم “الوطنية” في ظل النظام الملكي. لقد تم التلاعب بالوجدان العراقي، لا لتثبيت مشروع وطني جامع، بل لحماية عرش هشّ فوق رُكام شعب مسحوق.
المرحلة الأولى: بين صورة الوطن والحقيقة الغائبة
في وعي المواطن البسيط، كانت كلمة “وطن” تختزن شيئًا غامضًا، مُقدّسًا، لا يُناقَش. وطن يُطلب منك أن تموت لأجله، ولكن لا أحد يشرح لك: لأجل من؟ ولماذا؟
صورة الوطن التي زُرعت في الوجدان العراقي لم تكن نابعة من تجربة مشتركة، أو ذاكرة نضال جماعي، بل صُنعت كمنتج سياسي هدفه حماية عرشٍ هشّ ومشروع تبعية
الوطن، وفق سردية العرش، لم يكن أرضًا تُبنى عليها العدالة، بل كان قصرًا فوق رؤوس الجياع.
كُرّست مفردات التضحية، والخيانة، والولاء، في الإعلام، والخطاب المدرسي، وحتى الأناشيد الصباحية.
صار “حامي العرش” هو الوطن، وصار ،التساؤل عن الحقوق خيانة مغلّفة بالفوضى،
وهكذا، تم اختزال الوطن في شخص الملك، وتم إلغاء المواطن من معادلة الوطن.
المرحلة الثانية: وعّاظ السلاطين العمق الخفي لصناعة الطاعة
لم تكن السلطة لتنجح في خداع الناس بمفردها؛ كان لا بد من ذراع روحي، يُلبس الخضوع ثوبًا مقدسًا.
دخل وعّاظ السلاطين إلى المشهد، لا ليُرشدوا الناس إلى الله، بل ليُقرّبوهم من البلاط الملكي باسم الله.
قالوا إن “طاعة أولي الأمر” تشمل طاعة من يجلد ظهرك، ويجوع أبناءك، ويحرمك من حقك في الحياة.
وراحوا يخلطون بين الوطن كحُرمة شرعية، والسلطة كحاكم مفروض، حتى التبس الأمر على العامة.
صار المواطن يظن أن ،الدعوة إلى العدالة هي دعوة إلى الفتنة*، وأن ،السكوت عن الظلم هو قمة الإيمان.
هكذا تشكّلت طاعة عمياء، لا لله، بل للعرش، زُرعت في القلب لا العقل، وترسّخت عبر أجيال من الخوف والتديُّن الممسوخ.
المرحلة الثالثة: خدعة الوطن – كيف أُريقت دماء الأبرياء باسم الراية؟
في هذه المرحلة، أصبح المواطن مستعدًا للتضحية بروحه دفاعًا عن وطنٍ لم يكن يملك فيه حتى سقفًا يؤويه.
خرجت جموع الفقراء للجندية، سُحِقوا في الحروب، قُمعوا في الثورات، وذُبحوا في الانقلابات، وكل ذلك باسم “حب الوطن”.
لكن حين تدقّق في جوهر تلك المراحل، تكتشف أن جوهرها كان حماية العرش، لا بناء وطن.
لقد خُدِع الملايين، وتمت صناعتهم كوقود لحروب الآخرين، يُطلب منهم الموت صمتًا، لا أن يحيوا كرامًا.
المرحلة الرابعة: صناعة الجهل وتعميم البؤس كوسيلة لضبط الشعب ،،،،،
لم تكتفِ السلطة بخداع الوجدان، بل اشتغلت على تمزيق الإنسان من الداخل.
دخلت في صلب الفرد العراقي عبر الفقر، الجهل، وصناعة أزمات يومية تُبقيه منشغلًا بلقمة العيش.
تحوّلت الحياة إلى صراع مستمر: مع الرغيف، مع المرض، مع الوظيفة، مع الكرامة.
أُريد له أن يبقى في مستوى الغريزة، لا الوعي.
وعندما ننظر إلى الشخصية العراقية، نرى تناقضًا حادًا: شراسة في الدفاع عن الذات، وسرعة في التسامح. هذا التناقض استُغل بذكاء من قبل السلطة: تُجَوِّعه وتُهينه، ثم تُخاطبه باسم الوطنية، فيسامحها ويهتف لها.
المرحلة الخامسة: الخوف من المجهول والإرث الثقيل للاضطهاد،،،،
لم يكن الخضوع ناجمًا فقط عن الجهل والفقر، بل عن (تاريخ طويل من الاضطهاد).
ذاكرة القمع التي عاشها العراقي – من السيف العثماني إلى سوط الإنجليز – خلقت نوعًا من ،القبول بالموجود خوفًا من المجهول.
أصبح الاستقرار الزائف هو الجنة الموعودة، وأيّ محاولة لتغييره تُقابل بالخوف والتكفير.

خاتمة تمهيدية للحلقة السادسة
كل ما تقدم يفتح باب التساؤل: هل وُجد وعي جمعي حقيقي في لحظة سقوط الدولة العثمانية؟ أم أن الانقسام، التشرذم، والجهل، مكّنت الاحتلال البريطاني من بسط سلطته؟

في الحلقة السادسة، سنعود إلى تلك اللحظة المفصلية: كيف استُقبل الاحتلال؟ من قاومه؟ من انقسم معه؟ وكيف تم تفتيت الأرض العراقية، ليس فقط جغرافيًا، بل نفسيًا واجتماعيًا؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات