سيدة قريش…منارة المعاضدة والمؤازرة والفداء

إمراة كاملة ،جمعت بين الجمال الظاهري والطهر الداخلي ،والكمال العقلي ،كانت على درجة إستثنائية من الالتزام الاخلاقي بحيث عرفت بالطاهرة ،مع إنها إمراة شابة ذات جمال وثراء ،وهذه كلها عوامل مساعدة على التهتك والانحراف ،فمن كمال عقلها إنها سعت للأقتران بالنبي في وقت ردت فيه من تقدم لها من كبار قريش وزعماء العرب ؛ولهذا فأن هذا الكمال والجمال لايقترن الا بكمال وجمال آخر .في خبر أن الناس سمعوا يوم زفافها مناديا ينادي من السماء :(إن الله تعالى قد زوج بالطاهر الطاهرة ،وبالصادق الصادقة…)وشاءت المشيئة الالهية أن يتحقق هذا الاقتران والرباط المقدس ،ليكون بداية لحياة مليئة بالاحداث والمصاعب والآلام .تذكر الروايات انها بعد العقد التفتت الى رسول الله (صلى الله عليه واله) وقالت :إنى بيتك ،فبيتي بيتك ،وانا جاريتك…)
ها هي خديجة تبدأ رحلتها مع النبي الكريم ،في غيابات الحصار الخانق ،لتشهد ساحة الصراع بين الحق القليل الصابر المكعوم ،وخصمه الغشوم ،منذ بداية الرحلة وام المؤمنين خديجة (عليها السلام)وقفت وقفة مشرفة في الدفاع عن الاسلام وعن الرسالة المحمدية ،فكانت نعم المناصرة والصابرة والمجاهدة ،لقد كانت سندا لرسول الله في رسالته منذ بداية البعثة وحتى رحيلها سلام الله عليها ،فتحملت اشد الالام بسبب مقاطعة نسوة قريش لها ،والحصار المفروض على الرسول الاعظم.
ورد في الاخبار عن كثرة اموالها وغناها ،فبذلت جميع ماتملك قربة الى الله تعالى وفي سبيل اعلاء كلمة التوحيد ،ولم يبق من مالها شيء الا وقد وضعته تحت تصرف النبي ،وروي عن ابن عباس في تفسير هذه الاية(ووجدك عائلا فأغنى)الضحى /٨ يعني وجدك فقيرا فأغناك بمال خديجة ،فكان لهذا الدعم المادي الدور الكبير في غنى الرسول والرسالة ،لذا كان الرسول (صلى الله عليه واله)يقول :(مانفعني مال قط ،مثل ما نفعني مال خديجة)*١،مالها كان سببا في انتشار الاسلام ،وإنعاش الفقراء،اذ كان المسلمون المهاجرون اغلبهم من الفقراء والضعفاء ،فكان مالها هو الاساس المعتمد ، ونظرا لدورها في حياة هذه الامة ووفاءها لزوجها رسول الله ،استحقت هذه المرأة العظيمة تحية وسلام من رب الانام ،وثناء النبي (صلى الله عليه واله)وحبه الكبير لها ،فكان صلوات الله عليه يبكي لمجرد سماع اسمها ويقول (ما ابدلني الله خيرا منها ،آمنت بي حين كفر بي الناس وصدقتني حين كذبني الناس ،وأشركتني في مالها حين حرمني الناس ،ورزقني الله ولدها وحرمني ولد غيرها)*٢وكان اذا ذكرها تهتز اعماقه ؛لانه يرى بها المهد الذي إحتضن الرسالة،
وورد عن رسول الله (صلى الله عليه واله)أن جبرائيل قال له ليلة أسري به :(يامحمد إقرأ على خديجة من الله ومني السلام )*٣
فلما بلغها قالت :إن الله هو السلام ،ومنه السلام ،واليه يعود السلام ،وعلى جبرائيل السلام …وهذا يدل على ادبها واخلاقها العالية

اما دعمها المعنوي لرسول الله ،فيروى انها كانت تستقبله بوجه طلق وبشوش ؛لتخفف عنه المصاعب والاوجاع التي كان يواجهها في طريق الدعوة الاسلامية ،فكانت كهفه الدافئ الذي يلتجأ اليه ،وظهرا يستند اليه عند المحن والشدائد ،ويروى انه عندما اعلن الرسول (صلى الله عليه واله)عن رسالته بعدما كانت سرية ،لاقى ما لاقى من قومه ،حتى انهم قاموا برميه بالحجارة حتى سالت الدماء منه ،فما كان للنبي الا أن يرحل عنهم الى احد جبال مكة ،يشكو ربه ويبث حزنه له ،وقد اقلق هذا الامر السيدة خديجة (عليها السلام)فخرجت هي وأمير المؤمنين (عليه السلام) خلفه ،يبحثون عنه ،فجعلت تنادي :من أحسّ لي النبي المصطفى؟ من أحسّ لي الربيع المرتضى؟ من أحسّ لي المطرود في الله ؟من أحسّ لي ابا القاسم ؟ ،لما نظر جبرائل الى خديجة تجول في الوادي ،قال يارسول الله :الا ترى الى خديجة قد ابكت لبكائها ملائكة السماء؟ادعها اليك فأقرئها مني السلام ،وقل لها :إن الله يقرئك السلام ،فدعاها النبي (صلى الله عليه واله)والدماء تسيل من وجهه على الارض ،فصارت مولاتنا خديجة تمسح الدم عن وجه رسول الله) *٤وهكذا نجد أمرأة عظيمة ،طبيعتها كالجبال الشُّم،آمنت برسالة زوجها ،وعملت بما يقتضيه أيمانها،بالتثبيت وتهوين الخطوب،وتذليل العقبات،لذلك كانت حاضرة مع الرسول حتى بعد وفاتها ،وشاءت المشيئة الربانية والحكمة الالهية أن تكون خديجة ،أم الذرية الطاهرة ووالدة الكوثر،فيمن الله تعالى على نبيه الاكرم وعلى هذه الأمة بهذه السلالة الطاهرة ،فيبقى إمتداد رسول الله من بنتها فاطمة الزهراء (عليها السلام)،تلك الذرية الطيبة التي ملأت الكون بنورها وهدايتها للبشرية ،هاهي خديجة تبقى مثالا للرجال والنساء ،مثال الانسان الكامل الذي يتغلب على كل الظروف التي تجبره على الكفر والانحراف.

وحتى في آخر لحظات حياتها ،في حال الاحتضار ،تلتفت الى رسول الله وتقول له:(إني قاصرة في حقك فأعفني ،ولم أكن قد أديت حقك ،وإن كان لي شيء اطلبه منك فهو رضاك…فنقول لها سيدتي أي تقصير هذا وقد أعطيت كل شيء في سبيل الرسالة السماوية ،حتى صرت كلك لمحمد (صلى الله عليه واله)،ولم تخرجي من هذه الدنيا الا بثوب واحد …
فالف تحية وسلام الى روحك الطاهرة ،الشامخة في عليين ،والف سلام الى رحابك السنية التي نبتت بالخير العامر واللطف الوافر،سلام الى روحك الملتاعة تشد حجر الصبر على قلبك المتصدع…الى شموخك الفذ ،وعطاءك الوتر،يابسمة الطهر في شعاب الحجون…هاهي الروح الزكية تتأهب للخروج ،لتمضي الى بارئها وعودها الى سبحات التجلي ومصيرها الابدي الى مقعد الصدق ورخاء العيش الدائم ،وها هو الرسول العظيم يرى فظاعة الموت تفعل فعلتها في أحب الخلق اليه…تلك اللحظة التي لاتحسب بمقياس الزمن ،لم ينفرد النبي بهذا الحزن ،بل هناك فاطمة الحزينة ،الرقيقة القلب ،تزداد حزنا ولوعة على تلك الام الحنون ،وها هو جبرائيل يواسيها بسلام الرب الغفور ويبشرها بأن أمها في بيت من قصب ،كعابه من ذهب ،وعمده من ياقوت أحمر، بين آسية أمرأة فرعون ومريم بنت عمران …٥

………………………………………………
١-بحار الانوارج١٩ص٦٣
٢-احمد بن حنبل في المسند ج٦ص١١٨
٣-الطريق الى منبر الحسين ص٣٣٦
٤-نفس المصدر ص٣٣٢

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات