القيَمُ والمُثُلُ الرساليةُ في نهجِ الإمامِ مُحمّدٍ الجواد (عليه السلام )

بقلم :: وسن فوزي منصور

إنَّ تاريخَ البشريةِ لا يخفى على كُلِّ باحثٍ في تاريخِ ما قبل الإسلام وبعده؛ كيفَ كانَ، وكيفَ أصبح على يدِ منقذِ البشرية وخاتمِ الأنبياء محمدٍ (صلى اللهُ عليه وآله)، وكيفَ أنّه جعل حدًّا فاصلًا يفصلُ بينَ عصرِ الجاهليةِ وعصرِ صدورِ الإسلام، وهذا ليسَ بالشيءِ الهيّن؛ فقد ناضلَ (صلوات الله عليه وآله) وجاهدَ كي ترتقيَ هذه الأُمّةُ بالقيَمِ والمُثُلِ الإسلامية.
عرّفَ أهلُ اللغة القيمَ (بأنّها جمعُ قيمةٍ، وتعني شيئًا ذا ثمنٍ كبير، قال (تعالى): “دينًا قيمًا” ويقصد به الدينَ المستقيمَ الذي لا اعوجاجَ فيه.
أما اصطلاحًا فالقيم الدينية هي مجموعةٌ من المعاييرِ والأحكامِ الدينيةِ من حيث التطوّر الإسلامي والتشريع الإلهي.
وعلى ذلك يتضحُ لنا أنّ القيمَ التي أسّسها نبيُّنا الأكرم (صلى الله عليه وآله) تسيرُ بالإنسانِ نحوَ المعرفةِ والإدراكِ، وتُخرِجُه من براثنِ الجاهليةِ إلى الهدايةِ والإصلاح..
وامتدادًا للرسالةِ الإلهيةِ للرسول (صلى الله عليه وآله) كانَ للائمةِ الاثني عشر (عليهم السلام) دورٌ في إكمالِ مسيرةِ جدِّهم المُصطفى (صلوات الله عليه وآله)، وقد صرّحَ بذلك في أكثرِ من حديثٍ وردَ عنه حيثُ قال: “أنا سيّدُ النبيين، وعليٌ بن أبي طالب سيّدُ الوصيين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر، أولهم عليٌ بن أبي طالب وآخرهم القائم”1
وكانَ من بينِ هؤلاءِ الائمةِ الاثني عشر إمامُنا التاسعُ مُحمّدٌ بن علي الجواد (عليه السلام) الذي نحنُ بصددِ الكتابة عنه، فهو (سلام الله عليه) مع قِصَرِ عُمرِه وصِغَرِ سِنّهِ تركَ الأثرَ الكبيرَ في زمانِ عصرِه وإلى يومِنا هذا، إذ ننتهلُ من عظيمِ ما أناطته السماءُ له من دورٍ في مجالِ الدينِ والدُنيا من مُناظراتٍ ومواعظَ وأفكارَ وفلسفةٍ سلّطتِ الضوءَ على شخصيتِه الربّانية، فكانَ وليدَ المعجزةِ وإمامَ البركة…
قال يحيى الصنعاني: “دخلتُ على أبي الحسنِ الرضا (عليه السلام) وهو بمكة، وهو يُقشِّرُ موزًا ويُطعِمُ أبا جعفر (عليه السلام) فقلت: جُعِلتُ فداك هو المولودُ المبارك؟ قال: نعم يا يحيى، هذا المولودُ المباركُ الذي لم يولدْ في الإسلامِ مثلُه مولودًا أعظم بركةً على شيعتِنا منه”2
وقد أثارَ الذين لا يُميّزون بينَ غسقِ الليل وأَلَقِ النهار حولَه الكثيرَ من التساؤلاتِ؛ كيفَ لمثلِ هذا الصغير أنْ يمتلكَ هذا العقلَ الكبيرَ الراجح؟، نُقِلَ عن صفوان بن يحيى قال: قُلتُ للرضا: قد كُنّا نسألُك قبلَ أنْ يهبَ اللهُ لك أبا جعفر من القائم بعدَك فتقولُ: يهبُ اللهُ لي غُلامًا، وقد وهبَكَ اللهُ وأقرَّ عيونَنا به فإنْ كانَ كونٌ ولا أرانا اللهُ لكَ يومًا فإلى من؟ (فأشارَ بيده إلى أبي جعفر وهو قائمٌ بين يديه، وعمرُه إذ ذاك ثلاث سنين: فقلتُ: هو ابنُ ثلاث، قال: وما يضرُّه من ذلك، فقد قامَ عيسى بالحُجّةِ وهو ابنُ أقلِّ من ثلاثِ سنين”3
وهذا ممّا لا شكَّ فيه، فهم مثلما قال أبوهم أميرُ المؤمنين (عليه السلام): “نحنُ أهلُ البيتِ لا يُقاسُ بنا أحدٌ، فينا نزلَ القرآنُ وفينا معدنُ الرسالة”4
صدقَ أميرُ المؤمنين وإمامُ الموّحدين؛ فهم (سلام الله عليهم) أهلُ بيتِ النبوّةِ ومعدنِ الرسالة، ومُختلفِ الملائكة، ومهبطِ الوحي والتنزيل…
وعلى هذا المبدأ كرّسَ إمامُنا مُحمّدٌ الجوادُ (عليه السلام) الجهدَ الكبيرَ لترسيخِ القيمِ وتقويمِ الاعوجاجِ والوقوفِ في وجهِ المُنحرفين وهدايةِ التائهين، قال المسعودي: اجتمعَ من فقهاءِ بغدادَ والأمصارِ وعلمائهم ثمانون رجلًا وقصدوا الحجَّ والمدينةَ ليُشاهدوا أبا جعفر (عليه السلام)، فلمّا وافوا أتوا دارَ أبي عبدِ اللهِ جعفر بن محمد فدخلوها وجلسوا على بساطٍ كبيرٍ أحمر وخرجَ إليهم عبدُ الله بن موسی فجلسَ في صدرِ المجلس وقامَ مُنادٍ فنادى هذا ابنُ رسولِ اللهِ فمن أرادَ السؤالَ فليسألْه فقامَ إليه رجلٌ من القومِ فقال له: ما تقولُ في رجلٍ قالَ لامرأته: أنتِ طالق عددَ نجومِ السماء؟ قال: طُلِّقتْ بثلاث بصدرِ الجوزاء والنسر الواقع، فوردَ على الشيعةِ ما حيّرهم وغمَّهم. ثم قامَ إليه رجلٌ آخر فقال: ما تقولُ في رجلٍ أتى بهيمة؟ فقال: تُقطَعُ يدُه ويُجلّدُ مائة ويُنفى. فضجَّ القومُ بالبكاء..

وقد اجتمَعَ فقهاءُ الأمصارِ من أقطارِ الأرضِ بالمشرق والمغرب والحجاز ومكة والعراقين واضطربوا للقيامِ والانصرافِ حتى فُتِحَ عليهم بابٌ من صدرِ المجلس. وخرجَ موفقُ الخادمُ بين يدي أبي جعفر وهو خلفه وعليه قميصانِ وأزارٍ عدني وعمامة بذؤابتين، إحداهما من قُدّام وأُخرى من خلفه، وفي رجليه نعلٌ بقبالين فسلَّمَ وجلسَ وأمسكَ الناسُ كُلُّهم، فقامَ صاحبُ المسألةِ الأولى فقالَ له: يا ابنَ رسولِ الله ما تقولُ في رجلٍ قالَ لامرأته: أنتِ طالق عددَ نجومِ السماء؟ قال (عليه السلام): اقرأ كتابَ اللهِ (تعالى): «الطلاقُ مرّتانِ فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسریحٌ بإحسان» ، قال له: فإنّ عمَّك قد أفتانا

أنها قد طُلِّقَتْ ، فقال له: يا عمّ اتقِ اللهَ ولا تُفتِ، وفي الإمامةِ من هو أعلمُ منك، فقامَ إليه صاحبُ المسألةِ الثانية فقال: يا ابنَ رسولِ اللهِ ما تقولُ في رجلٍ أتى بهيمة؟ فقال لي: يُعزَّرُ ويحمى ظهر البهيمة وتُخرَجُ من البلدِ لئلا يبقى على الرجلِ عارُها، فقال له: إنَّ عمَّك أفتى بكيت وكيت. فقال: لا إله إلا الله، يا عمّ إنّه لعظيمُ عندَ اللهِ أنْ تقفَ غدا بينَ يديه فيقول لك: لِمَ أفتيتَ عبادي بما لم تعلمْ وفي الإمامةِ من هو أعلمُ منك، فقالَ له عبدُ الله بن موسی: رأيتُ أخي الرضا وقد أجابَ في مثلِ هذه المسألة بهذا الجواب. فقال له أبو جعفر: إنّما سُئلَ الرضا عن نبّاشٍ نبشَ قبرَ امرأةٍ وفجرَ بها وأخذَ أكفانَها فأمرَ بقطعه للسرقة ونفيه لتمثيله بالميت”5
هكذا كانَ (عليه السلام) يُعطي حلولًا لما يُعرضُ عليه من مسائلَ في شتّى مُناسباتِ جلساتِه حتى اشتُهِرَ وذاعَ صيتُه وخطفَ أنظارَ حُكّامَه المهووسين بالحكمِ والسلطة في عهدي السفيانية والعباسية، ممّا جعلهم يُضيّقون عليه الطُرُقُ، ولكنّه خرجَ عليهم من أضيقِ الطُرُقِ إلى ما تحيّرتْ فيه العقولُ في وقتٍ كثُرَتْ فيه النزاعاتُ المذهبيةُ والعقائديةُ وتفرّقَ الناسُ إلى شيعٍ وطوائفَ وتنازعَ المعتزلة والمحدثون نزاعًا حولَ خلقِ القرآن وقدمه وحولَ أصولِ الدينِ وفروعِه، فلم يتردّدْ إمامُنا (عليه السلام) في توضيحِ معالمِ التوحيدِ فهم تراجمةُ الوحي والقرآنُ الناطقُ بالحقِّ.
فمن أقوالِه (عليه السلام) في التوحيد ما رويَ عن أبي هاشم الجعفري قال: سألتُ أبا جعفر مُحمّدًا بن علي (عليهما السلام): ما معنى الواحد؟ قال: المجتمع عليه بجميعِ الألسُنِ بالوحدانيةِ”
وفي جوابٍ آخر قال (عليه السلام): الذي اجتماعُ الألسنِ عليه بالتوحيد كما قال اللهُ (عزّ وجل): ” وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ”
ووردَ أيضًا عنه في توحيدِ اللهِ (عزّ وجلّ) عن عبدِ الرحمن بن أبي نجران قال: سألتُ أبا جعفرٍ (عليه السلام) عن التوحيد فقلتُ: أتوهم شيئًا؟ فقال: نعم، غير معقولٍ ولا محدودٍ، فما وقعَ وهمُك عليه في شيءٍ فهو خلافُه، لا يشبههُ شيءٌ ولا تُدركه الأوهام، كيف تُدركه الأوهامُ وهو خلافُ ما يُعقَل، وخلافُ ما يُتصوّرُ في الأوهام؟ إنّما يتوهّمُ شيءٌ غيرُ معقولٍ ولا محدود”7
وأما بالنسبةِ لقولِ المُجسَّمة، قال (عليه السلام): “من قال بالجسمِ فلا تُعطوه من الزكاةِ ولا تُصلّوا وراءَه سبحانَ من لا يُحدُّ، ولا يوصفُ ليسَ كمثلِه شيءٌ وهو السميع البصير”8
وعنه أيضًا (عليه السلام) قال: “فربُّنا (تبارك وتعالى) لا شبهَ له ولا ضدَّ ولا ندَّ ولا كيفَ ولا نهايةَ، ولا تبصار بصر، ومحرمٌ على القلوبِ أنْ تمثله، وعلى الأوهامِ أنْ تحدَّه، وعلى الضمائرِ أنْ تُكوِّنَه. (جلَّ وعزَّ) عن أداةِ خلقه وسماتِ بريته، وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا”9

إنّ إمامَنا محمدًا الجواد (عليه السلام) جاءَ مُعدًّا لأن يكونَ مع تكليفِه المبكّر لحملِ أعباءِ الإمامةِ والقيادةِ بما يُقاربُ سبعَ عشرة سنةً، وقفَ فيها بثباتٍ أمامَ تياراتِ الضلالِ والانحرافِ؛ فكانَ سيّدَ بني هاشم بلا مُنازعٍ يُطأطئُ العُلماءُ والفقهاءُ رؤوسَهم لقوّةِ بيانِه وفصاحةِ لسانه، يحتجُّ ويُناقشُ ويُخالِفُ ويُفلسِفُ ببرهانٍ قاطعٍ وحجةٍ دامغةٍ حتى تربّعَ على عرشِ بيان الدين، فبيّن ما سنّه الإسلامُ وبيّنَ حدودَ اللهِ كما جاءَ في كتابِه القرآنِ الكريم وسُنّةِ رسولِه (صلى اللهُ عليه وآله)، فكانَ من جُملةِ ما رويَ عنه (عليه السلام) في الصومِ والصلاة، ما رواه علي بن مهزيار قال: كتبَ أبو الحسن بن الحصين إلى أبي جعفرٍ الثاني (عليه السلام) معي: جُعِلتُ فداك قد اختلفتْ موالوك في صلاةِ الفجر؛ فمنهم من يُصلّي إذا طلعَ الفجرُ الأولُ المُستطيلُ في السماء، ومنهم من يُصلّي إذا اعترضَ في أسفلِ الأُفُقِ واستبانَ، ولستُ أعرفُ أفضلَ الوقتينِ فأُصلي فيه. فإنْ رأيت تُعلِّمُني أفضلَ الوقتينِ وتحدّه لي، وكيفَ أصنعُ مع القمرِ والفجرُ لا يتبيّنُ معه حتى يحمرُ ويصبح، وكيفَ أصنعُ مع الغيمِ وما حدُّ ذلك في السفر والحضر؟ فعلتَ إنْ شاءَ اللهُ فكتبَ (عليه السلام) بخطِّه وقرأته: الفجرُ -يرحمك الله- هو الخيطُ الأبيضُ المُعترضُ ليس هو الأبيضَ صعداء، فلا تُصلِّ في سفرٍ حتى تتبيّنه، فإنّ اللهَ (تبارك وتعالى) لم يجعلْ خلقَه في شُبهةٍ من هذا فقال: “كُلوا واشربوا حتى يتبيّنَ لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجر”، فالخيطُ الأبيضُ هو المُعترضُ الذي يحرمُ به الأكلُ والشربُ في الصوم وكذلك هو الذي توجبُ به الصلاة”10

ومن دِقّةِ بيانِ جوابِه (عليه السلام)، في سارقٍ أقرَّ على نفسِه بالسرقة، وسألَ الخليفةَ تطهيرَه بإقامةِ الحدِّ عليه وكانَ جمعٌ من الفقهاءِ في مجلسِه، وكان روحُ النبوّةِ والوصية إمامُنا محمدٌ الجواد (عليه السلام) موجوداً في المجلس، حيثُ أزالَ الزيفَ والافتراءَ بما قال به الفقهاءُ في تحديدِ موضعِ القطعِ، ما بين قائلٍ بالقطعِ من الكرسوع، وآخرون بالقطعِ من المرفق، حيثُ قال (سلام الله عليه): إنّ القطعَ يجبُ أنْ يكونَ من مفصلِ أصولِ الأصابع فيترك الكف” محتجًّا على ذلك بقولِ رسولِ الله: “السجودُ على سبعةِ أعضاءٍ: الوجه، واليدين، والركبتين، والرجلين، فإذا قُطِعَتْ يدُه من الكرسوع أو المرفق لم يبقَ له يدٌ يسجدُ عليها، وقال اللهُ (تبارك وتعالى): “وإنَّ المساجدَ لله” يعني هذه الأعضاءَ السبعةَ التي يسجدُ عليها “فلا تدعوا مع اللهِ أحدًا” وما كانَ للهِ لا يُقطع”11
أُعجِبَ المُعتصم بذلك، وأمر بقطع يدِ السارقِ من مفصلِ الأصابعِ دونَ الكفّ..
وعنه أيضًا في الحجّ، قال عدةٌ من أصحابِنا، عن سهل بن زياد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: قلتُ لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): جُعِلتُ فداكَ إنّ رجلًا من أصحابِنا رمى الجمرةَ يومَ النحرِ وحلقَ قبلَ أنْ يذبح، فقالَ: إنّ رسولَ الله (صلى عليه وآله) لمّا كانَ يومُ النحرِ أتاه طوائفُ من المسلمين فقالوا: يا رسولَ اللهِ ذبحنا من قبل أنْ نرميَ وحلقنا من قبلِ أنْ نذبح، ولم يبقَ شيءٌ مما ينبغي لهم أنْ يّقدِّموه إلا أخّروه ولا شيء ممّا ينبغي أنْ يؤخِّروه إلا قدّموه فقالَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله): لا حرجَ لا حرجَ”12
وعنه في النكاح، عن علي بن مهزيار قال: سأل عيسى بن جعفر بن عيسى أبا جعفر الثاني (عليه السلام) أنّ امرأةً أرضعتْ لي صبيًا فهل يحلُّ لي أنْ أتزوّج ابنةَ زوجِها؟ فقال: لي ما أجودَ ما سألتَ، من ههنا يؤتى أنْ يقولَ الناسُ حُرِّمتْ عليه امرأته من قبلِ لبنِ الفحل، هذا هو لبنُ الفحلِ لا غيره فقلت له: إنَّ الجاريةَ ليستْ ابنةَ المرأةِ التي أرضعتْ لي، هي ابنةُ غيرِها فقال: لو كُنّ عشرًا مُتفرِّقاتٍ ما حلَّ لكَ منهن شيءٌ وكُنّ في موضعِ بناتك”13
وعن زيادٍ بسنده الى عليٍ بن أسباط أنّه كتبَ إلى أبي جعفر الجواد (عليه السلام) في أمرِ بناتِه وأنّه لا يجدُ أحدًا مثله، فكتبَ إليه أبو جعفر: فهمتُ ما ذكرتَ في أمرِ بناتِك، وأنّك لا تجدُ أحدًا مثلك، فلا تنظرْ في ذلك رحمَك اللهُ فإنّ رسولَ الله (صلى الله عليه وآله) قال: إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوِّجوه إلّا تفعلوا تكُنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ كبير”14
أمّا عن مناظراته بين قاضي القضاة يحيى بن أكثم فليستْ بعيدةً عن الزيفِ والافتراءِ لتكشفَ نوايا الخليفةِ وقاضيه أمامَ جمعٍ من خاصتِه وحواشيه وتُبيّنَ بلاغةَ إمامِنا مُحمّدٍ الجواد (عليه السلام) في أدقِّ المسائلِ، أذكرُ منها إجمالًا:

ما رواه يحيى بن أكثم أنّه قد روي: “إنّ مثلَ أبي بكر وعمر في الأرض كمثلِ جبرئيل وميكائيل في السماء” فقال (عليه السلام): “وهذا أيضًا يجبُ أنْ يُنظرَ فيه؛ لأنّ جبرئيل وميكائيل ملكانِ للهِ مُقرّبانِ لم يعصيا اللهَ قط، ولم يُفارقا طاعتَه لحظةً واحدة، وهما قد أشركا بالله (عزّ وجلّ)، وإنْ أسلما بعدَ الشرك، وكانَ أكثرُ أيامهما في الشرك بالله، فمُحالٌ أنْ يشبههما بهما”.
فقال له يحيى بن أكثم: قد روي أيضًا أنّهما سيّدا كهولِ أهلِ الجنة، فما تقولُ في ذلك يا أبا جعفر؟ فقال (عليه السلام): وهذا الخبرُ لا صحةَ له أيضًا؛ لأنَ أهلَ الجنةِ ليسَ فيها كهلٌ وشيخٌ، وقد وضعَ هذا الخبرَ بنو أُميّة في مُقابلِ ما جاءَ عن النبي (صلى الله عليه وآله) في الحسنِ والحسينِ وأنّهما سيّدا أهلِ الجنة.
فقال يحيى: قد رويَ أنّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) قال: “لو لم أُبعثْ لبُعِثَ عمر بن الخطاب، فقال (عليه السلام): كتابُ اللهِ أصدقُ من هذا الحديث، فقد قالَ اللهُ في كتابِه: “وإذ أخذنا من النبين ميثاقهم ومنك ومن نوح” فقد أخذَ اللهُ ميثاقَ النبيين فكيفَ يُمكِنُ أنْ يُبدِّلَ ميثاقَه؟! وكُلُّ الأنبياءِ لم يُشركوا باللهِ طرفةَ عين، فكيفَ يبعثُ اللهُ من أشركَ وكانتْ أكثرُ أيامه على الشرك بالله؟!”15
هُنا بُهِتَ الذي كفرَ، وبانَ زيفُ الحقائقِ، وبدتْ شرارةُ الاغتيالِ تؤرِّقُ عينَ الخليفةِ، فلا بُدّ من أنْ يتخلّصَ من هذا النور الذي ما زال يزدادُ وضوحًا وجلاءً يومًا بعدَ يوم..
ولم تكُ تنطلي على إمامِنا خُبثُ سرائرِهم الدفينة، فقد وردَ عنه (صلوات الله وسلامه عليه): “إيّاكَ ومُصاحبة الشرير؛ فإنّه كالسيفِ المسلولِ يحسنُ منظرُه ويقبحُ أثرُه”16
وما أقبحَ ما فعلوه؛ فالمخطِّطُ هو المأمونُ خليفةُ أبيه في استعمالِ السم، والساعي هو المعتصمُ والمُنفِّذُ هي الزوجة، ويخطرُ في بالي الآن قولُه عن الظلم (عليه السلام) حيث قال: “العاملُ بالظُلمِ والمُعينُ له والراضي به شركاء” 17

ومن قوله في الظلمِ أنتقلُ إلى ما ذكره المسعودي عن وفاته (عليه السلام): (فيقول: لم يزلِ المُعتصمُ وجعفرُ بن المأمون يُدبّرون، ويعملون الحيلةَ في قتلِه، فقال جعفر لأُخته أُمّ الفضل… لأنّه وقفَ على انحرافِها عنه وغيرتِها عليه لتفضيله (عليه السلام) أُمّ أبي الحسن ابنه عليها (أي على أُمّ الفضل).. فجعلتِ السمَّ في عنب، وناولته للإمامِ (عليه السلام).
ثم استطرد المسعودي قائلًا: (لقد ندمتْ أُمُّ الفضلِ بعدَ هذا العمل ندمًا عظيمًا، وبكتْ بكاءً شديدًا، ولما أكله بكت، فقال: لِمَ تبكين ليضربنّكِ اللهُ بفقرٍ لا يُجبر وبلاءٍ لا يُستر، فبُليت بعلةٍ أنفقتْ عليها جميعُ ما تملكه)18
-قال محمد بن الفرج (كتبَ إليّ أبو جعفر (عليه السلام): احملوا إليّ الخمسَ فإنّي لستُ آخذَه منكم سوى عامي هذا)19 فقُبِضَ (عليه السلام) في تلك السنة، ففي رواية المفيد كانت وفاته في ذي القعدة من سنة ٢٢٥، وانطوتْ بقتلِه خمسُ وعشرون سنةً من عمره الشريف تركَ فيها من القيمِ والمبادئ صفحاتٍ خلّدَها التأريخُ بأحرُفٍ من نور.. فقد كان (عليه السلام) سفيرًا للهِ (تعالى) في أرضه وأنهى وظيفتَه الإلهيةَ لولايةِ أمرِ الدين وإرشادِ المسلمين لينضمّ إلى قافلةِ أجدادِه وآبائه الشهداء (عليهم أفضل الصلاة والسلام).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- احقاق الحق ج 4 ص 103
2- بحار الانوار ج 50 ص 35
3- الفصول المهمة /265
4- اخبار الرضا ج 2 ص65
5- بحار الانوار ج 50 ص 88- 89
6- توحيد الصدوق ص 82 -83
7-الكافي : 1/ 82
8- امالي الصدوق : 167
9-توحيد الصدوق ص 193
10 – الكافي : 3 /282
11- سورة الجن ايه 18 / تفسير العياشي ج /1 ص 319 – 320
12- الكافي 4/4 – الاستبصار 2/ 284
13-الكافي 5 /441
14 – التهذيب : 7 /396
15 – الاحتجاج 254_ 294
16 -الابحار 74 / 198
17 – اقواله الشريفه كلها في كشف الغمة ج 3 من ص 136 / الى ص 158
18 – اثبات الوصية ص 129
19 – بحار الانوار ج 50 ص /63

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات