الحرف التاسع والعشرون : حين يصير الوعي مفردة

تأملات في فن المفردة ودور المثقف في إعادة تشكيل اللغة كفعلٍ نقدي وموقفٍ أخلاقي

بقلم : : عددنهاد الزركاني

في مشهدنا الثقافي الملتبس، كثيرًا ما يُختزل الفكر في مواقف، ويُختزل الوعي في شعارات، ويُختزل المثقف في حضور إعلامي طاغٍ. لكن خلف هذا الضجيج، يظلّ المثقف الحقيقي كائنًا لغويًا بامتياز؛ لا يَسلُك إلى العقل إلا من بوابة المفردة، ولا يُقيم منطقه إلا على إيقاعها الدقيق.

المفردة هنا ليست زخرفًا لغويًا ولا ترفًا بلاغيًا، بل هي الكاشف الصادق عن عمق الرؤية ونقاء المنهج. إنها أداة المثقف في نحت المفاهيم، وفي صوغ عالم بديل لا يُبنى بالقوة بل بالإقناع، لا بالسيطرة بل بالإيضاح. والمثقف، حين يُتقن فن المفردة، لا يكتب فقط، بل يُعيد ترتيب العالم على نحو يُمكّن القارئ من رؤيته من جديد.

اللغة ليست أداةً، بل هي وعيٌ يتكلم

في بنية المثقف المتكاملة، لا تنفصل المفردة عن الفكرة، ولا تنفصل الفكرة عن الإحساس بالزمن. فحين يكتب المثقف، فإنّه لا يستدعي الكلمات كما يستدعي التاجر سِلعه، بل كما يستدعي العارف أرواحه. الكلمة عنده ليست حشوًا، ولا وسيلةً للتزيين، بل شهادة فكرية، وبصمة روحية، وجمالٌ عقلاني يُقنع دون أن يُرغم.

وحين نقرأ نصوصًا لعقولٍ كبرى – كالجابري، أركون، الصدر، وحنّة أرندت – لا نشهد مجرد تحليلات، بل نشهد تَوليدًا جديدًا للغة، يُعبّر عن مدى عمق الوعي بمفهوم المفردة، وأثرها في تشكيل الرأي العام والنقاش الحضاري. فالمفكر لا يكتفي بالمعنى، بل يُتقن طريقته في قول المعنى، فيصير صوته المعنوي جزءًا من سلطته الفكرية.

المثقف لا يقول كثيرًا، بل يقول ما لا يُنسى

تكمن جمالية المفردة المثقفة في قدرتها على الاختزال دون إخلال، وعلى الشرح دون استعراض، وعلى التنبيه دون جرح. إنّه التوازن النادر بين البيان والموقف، بين الذوق العقلي وذوق اللغة. وهذا لا يُكتسب بالقراءة وحدها، بل بالمعاناة الفكرية الطويلة، والاحتكاك الحاد بالأسئلة الكبرى، والإقامة الطويلة في دهاليز المعنى.

إنّ الذي يُحسن استخدام المفردة، لا يكتب ليُعجب، بل ليُزعزع. لا يُجامل القارئ بل يوقظه. ولذا فإن فن المفردة ليس تجميلًا للخطاب، بل هو فعل مقاومة ضد الابتذال، وضد اللغة المسطحة التي تصوغ بها الأنظمة ووعاظ السلطة خطابها الكاذب.

الكاتب المثقف يكتب بتسعةٍ وعشرين حرفًا

نعلم جميعًا أن اللغة العربية تُبنى من ثمانيةٍ وعشرين حرفًا، وأن هذه الحروف البسيطة خلقت معارف ضخمة، وأنتجت فلسفات، وشرّحت الكون، وتوغّلت في الروح. ولكن المثقف الحق، لا يكتب بثمانيةٍ وعشرين حرفًا فقط. هو دائمًا يكتب بحرفٍ إضافي، لا يُرى ولا يُلفظ، لكنه يُحَسّ ويُدرَك: هو حرف الوعي.

ذلك الحرف التاسع والعشرون، ليس إلا التجلي المعرفي في استعمال اللغة؛ حين يصير الحرف موقفًا، والجملة سؤالًا، والمقالة صرخة ضد الزيف، أو همسًا في أذن القارئ كي يستفيق. هو الحرف الذي لا يُدرّس، ولا يُملى، بل يُكتسب بمعاناة السؤال، وبالصمت الطويل قبل الكتابة.

الفرق بين المثقف وبائع الكلام هو هذا الحرف. هو القدرة على قول ما لا يُقال، وتسمية ما تهرب منه العقول الكسولة. هو الإشارة التي تتجاوز العبارة، والبصيرة التي تسكن ما بين السطور.

خاتمة: مسؤولية الحرف التاسع والعشرين

أن تكتب وأنت مثقف، فذلك يعني أن كل حرفٍ تضعه ليس مجرد تمثيل لصوت، بل تجسيدٌ لموقف. كل كلمة تُطلقها تحمل على ظهرها ما يشبه القسم الأخلاقي، بأن لا تكون زيفًا، ولا تقليدًا، ولا أداةً في يد السلطة أو الغوغاء. ولهذا، فإن امتلاك الحرف التاسع والعشرين ليس امتيازًا، بل عبء. عبء أن تقول الحق حين يُجمّل الباطل، وأن تكتب النور وسط هذا السيل من الكلمات المعتمة.

المثقف لا يُقاس بما يكتب، بل بما لا يقبل أن يكتبه. لا بما يعرف، بل بما يختار أن يُفكر فيه رغم صعوبة الفكرة. وفي زمن الاستسهال اللغوي، يصبح الإصرار على جمالية المفردة وعمقها، ضربًا من المقاومة، وشكلًا من أشكال الإيمان بكرامة العقل البشري.

وهكذا، حين نكتب نحن – أبناء السؤال والقلق والنقد – لا نبحث عن بلاغة تُعجب، بل عن مفردة تُفكّر. نكتب بالحروف كلّها، ثم نُضيف من أعماقنا ذلك الحرف الذي لا يتعلمه الإنسان إلا إذا خاض معركته مع المعنى، وسكن اللغة كما يسكن العاشق معشوقه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات