المخدرات في العراق : حين ينهار المعنى ويُقتل المستقبل
بقلم : المحامي نهاد الزركاني
في قاعات المحاكم، وعلى امتداد سنوات عملي محاميًا، لم أكن أواجه أوراقًا باردة أو قضايا معزولة، بل كنت أطل على مشاهد مأساوية حية من قلب المجتمع العراقي.
ولعل ما يبعث على القلق العميق اليوم، أن قضايا المخدرات لم تعد محصورة في الأحياء المهمشة أو العوائل الفقيرة كما قد يتصور البعض، بل امتدت إلى شباب من أسر محترمة، وطلاب في كليات الطب والهندسة والحقوق.
ظاهرة تنذر بانهيار صامت وخطير لمستقبل العراق، وتنبهنا إلى أن الخطر لم يعد بعيدًا، بل طرق أبوابنا جميعًا.
إن الحديث عن المخدرات لم يعد ترفًا نظريًا أو شأنًا يخص غيرنا.
هذه القضية أصبحت تمس أولادنا نحن.
الخوف لم يعد على جيل آخر مجهول، بل على أبنائنا الذين يحلمون، مثلما حلمنا نحن، بمستقبل كريم وآمن.
جذور الأزمة: تفكك القلاع الصامت
لطالما كانت الأسرة العراقية، رغم ما تعرضت له من حروب وحصار، حصن الأمان الذي يحفظ الأمل.
لكن اليوم، نشهد بمرارة كيف بدأت هذه القلاع تتهاوى أمام طوفان السموم.
مخدراتٌ تغزو المدارس والجامعات والأحياء، تحوّل الحلم إلى كابوس، وتزرع الموت البطيء في أبدان الشباب.
لم تعد المأساة حكرًا على أوساط محددة؛
طالب الطب الذي كان يعده والده ليكون طبيبًا ناجحًا، أصبح مدمنا يرتجف على قارعة الطريق.
وطالبة الحقوق التي كانت أسرتها تتفاخر بها، أصبحت ضحية تدمر ذاتها وكرامتها مقابل جرعة مهينة.
إن أخطر ما يحدث ليس مجرد سقوط أفراد، بل تفكك لبنية الأسرة، وانهيار للمعنى الذي يحمي المجتمع.
حين ينكسر جدار الأسرة، تنكسر الأمة كلها، وحين يصبح الإدمان ظاهرة لا استثناء، يصبح مستقبل الوطن معلقًا على خيطٍ واهٍ قد ينقطع في أية لحظة.
المخدرات عرض لمرض أعمق
المخدرات ليست بداية المأساة، بل إحدى نهاياتها.
هي النتيجة المنطقية لمجتمع فقد القدرة على إلهام شبابه،
لجيل يواجه بطالةً قاتلة، وتعليمًا متهالكًا، وفقرًا يطوق أحلامه، وسط غياب مشروع وطني حقيقي يبعث الأمل.
الشاب المدمن ليس دائمًا “منحرفًا” أخلاقيًا كما يحلو للبعض أن يصوره.
كثيرون منهم كانوا ضحايا فراغ روحي، وضياع فكري، ويأس وجودي دفعهم للبحث عن مخدر ينسون به وجعهم.
الإدمان هنا هو صرخة مكتومة لجيل فقد ثقته بالمستقبل،
جيل لم يجد في الوطن صدرًا حانيًا، فهرب إلى السراب.
وهم المعالجة الأمنية
مواجهة الكارثة عبر الاعتقالات والحملات الأمنية ضروري، لكنه لا يكفي.
فكم من مرة اعتقلنا شبكات، ثم عادت شبكات أخرى أشد ضراوة؟
كم من تقرير صدر، ثم عادت السموم تتدفق كالنار تحت الرماد؟
لا يمكن لمقاربة أمنية بحتة أن تعالج جرحًا بهذا العمق.
فما لم نواجه الأسباب الجذرية، سيظل كل إنجاز أمني مؤقتًا، كمن يعالج السرطان بمسكنات الألم.
نحو مشروع وطني لبناء الإنسان
القضية اليوم تتجاوز الأمن والقانون؛
إنها معركة على روح الإنسان العراقي.
معركة لاستعادة المعنى، لإعادة بناء الحلم، لزرع الأمل في نفوس شباب كادوا أن ينسوه.
لا تُهزم المخدرات بالسجون وحدها، بل تهزم حين نعيد للإنسان كرامته.
حين تبني الدولة مشروعًا ثقافيًا، وتربويًا، واجتماعيًا يستنهض الشباب ويعيد الثقة بالوطن والحياة.
إنني أخشى على أولادي كما يخشى كل أب وأم.
فالقضية لم تعد تخص “الآخرين”؛
إنها تخص بيوتنا، تخص مستقبل أولادنا، تخص العراق الذي نحلم أن نراه واقفًا، لا يترنح تحت عباءة الموت البطيء.
كل يوم نتأخر فيه عن إطلاق مشروع حقيقي لبناء الإنسان،
كل يوم نغرق فيه في المسكنات،
هو يومٌ ندفع فيه الثمن من كرامتنا، ومن مستقبل أولادنا.
فهل سننتظر حتى نصحو على وطن بلا شباب، وعلى أرض بلا أحلام؟