عُذرًا آدمُ، إنّها حواء…

 

كم أجهدتْ نفسَها لتبدوَ في شكلٍ جميلٍ وهي حزينةٌ يجتاحُها الأسى كفراشةٍ أسيرةٍ عالقةٍ بينَ الأشواكِ، تُحاولُ جاهدةً أنْ تُحلِّقَ دونَ أجنحةٍ، تقيها الارتطامَ بالأرض، لكن دون جدوى، فقد كانَ في نبرتِه تهكُّمٌ لا يخلو من المرارةِ التي تُعيدُها من حيثُ بدأتْ…
ها هو يصرخُ ويكسرُ أيَّ شيءٍ أمامَه، حتى أواني الزهرِ والمرايا لم تسلمْ منه؛ فقد حوّلَها شظايا مُتناثرةً في كُلِّ مكان، وبعدَ أنْ أنهى صولتَه الجنونيةَ استسلمَ للخروجِ بعدَ أنْ أغلقَ البابَ خلفَه بشِدّة…
في لحظةِ صمتٍ أعادتْ شتاتَ نفسِها، جلستْ بهدوءٍ تجمعُ الزجاجَ المُتكسِّرَ ويداها ترتجفانِ من الخوف.. تمنّتْ لو أنّها لم تطلبْ منه أنْ لا يتأخّرَ بالسهرِ مع أصدقاءِ السوءِ الذين يُرافِقُهم، تمنّتْ لو أنّه لمرةٍ واحدةٍ يستمعُ إليها دونَ أنْ يغضبَ أو يجعلَها تتألّمُ من كلامِه وتصرفاتِه التي اعتادتْ عليها وسلبتْ منها الإرادةَ باستمرارِ العيشِ معه لو لا ذلك الصوت الذي طرقَ سمعها من خلفها، قائلًا:
– أُمّاه … لماذا أبي يغضبُ دائمًا؟
ذلك الصوتُ الذي استقامتْ بعدَ انكسارِها من أجلِه، وقبلَ أنْ تلتفتَ إليه طبطبتْ على وجنتيها لتُخفيَ بين أناملِها قطراتِ الدموع، تبتسمُ ابتسامةً مُصطنعَةً لتمحوَ معالمَ الحزنِ من وجهها.
أجابتْ بحنانٍ..
– أنتَ هُنا يا صغيري؟ لماذا نهضتَ من فراشِك؟
دعني آخذك إليه قبلَ أنْ تُصابَ بالبرد، أمسكتْ بيدِه تسحبُه إليها لكنّه أفلتَ يدَه قائلًا:
– لا أُريدُ أنْ أنامَ..
أُريدُ أنْ أعرفَ ما به أبي يتصرّفُ هكذا..
هي نفسُها لم تكُ تعلمُ الجوابَ المُقنعَ لهذا السؤالِ سوى إنّه رجلٌ مُتغطرسٌ لا يكبحُ ثورةَ غضبِه أحدٌ.. وكُلُّ ما عليها الآنَ أنْ ترفعَ الإبهامَ والقلقَ الذي ساورَ عقلَ طفلِها البريء الذي لا يجدرُ به أنْ يرى أيَّ خلافٍ ولا يسمعُ أيًّا من الألفاظِ التي تخدشُ قلبَه وتؤثِّرُ على نفسيتِه..
ولكي تُصلِحَ الأمرَ جلستْ قبالَه على الأرضِ ونظرتْ في عينيه وأمسكتْ بيديه تٌقبِّلهُما برفقٍ ليستشعرَ الأمانَ والاطمئنانَ الذي لا بُدّ أنْ يشعرَ به في ظلِّ أُسرتِه التي تُنمّي نشأتَه وتُعزِّزَ الثقةَ بداخلِه؛ ليكبُرَ بشخصيةٍ قويةٍ تواجِهُ مصاعبَ الحياةِ، ويتعايشُ مع حلوِها ومُرِها..
قالتْ له بعدَ أنِ استجمعتْ أنفاسَها حتى لا تخرجَ بينَ زفيرها أنّاتها المُتكرِّرةُ: لا تخَفْ يا صغيري، كُلُّ شيءٍ سيكونُ بخيرٍ في الصباحِ، أعِدُك بذلك، والآنَ هيّا بنا إلى الفراشِ سأحكي لكَ قصّةً جميلةً تجعلُكَ تنامُ بعُمقٍ…
وفي الصباحِ كانَ قد عادَ مُتأخِّرًا كعادتِه، ولم يُبالِ بعدمِ وجودِها بالغُرفة، لو لا صوتُ المُنبِّهِ الذي وضعتْه بالقُربِ منه، لتوقظَه من سُباتِه الطويلِ القامعِ به ليبدأ بالتذمّرِ قائلًا:
– المُغفّلةُ نسيتْ أنْ تُطفِئَ المُنبِّهَ بعدَ أنِ استيقظتْ؛ تُحاولُ استفزازي..
قامَ من فراشِه يبحثُ عنها ليؤنِّبَها على ذلك، دخلَ المطبخَ فقد اعتادَ أنْ يجدَها هناك، وقد حضّرتْ له ما طابَ ولذَّ من الطعام رغمَ كُلِّ شيءٍ يحصلُ بينهما… لكنّه لم يجدها!
اعتقدَ أنّها بالحمامِ تغسلُ ملابسَه؛ فهي حريصةٌ على أنْ يخرجَ من البيتِ بكاملِ أناقتِه وبملابسَ نظيفةٍ وعَطِرة، لكنّه لم يجدْها أيضًا!
توجّه إلى غرفةِ ابنِه لعلّه يجدُها؛ فهو يعلمُ كم تُحِبُّه وكم تهتمُّ لتربيته تربيةً صحيحةً وتحاولُ دائمًا أنْ تخلقَ جوًّا أُسريًا هادئًا رغمَ كُلِّ المُضايقاتِ التي يضعونها أمامَها… ولكنّه تفاجأ بعدمِ وجودها!
استشاطَ غضبًا يسألُ نفسَه: أينَ تكونُ قد اختفتْ؟ فهي لا تخرجُ من البيتِ إلا بإذنه..
توجّه إلى الصالةِ، وقعتْ عينُه على طاولةِ الطعام،ِ لفتَ نظرهُ بقايا زُجاجِ آنيةِ الزهرِ قد وضعتها وكتبتْ على ورقةٍ:
(حتى لا أكونَ مثلَ بقايا هذا الزجاجِ مُبعثرةً ومُتناثرةً هُنا وهُناك، لملمتُ نفسي واستجمعتُ ما بقيَ لي من كرامةٍ ورحلت) …
كانتْ حروفُ كلماتِها كالصاعقةِ بالنسبةِ إليه، ارتمى على كُرسيّه وقد اظلمَّ ما حولَه بما جنتْ يداه وأخذَ يُراجِعُ نفسَه….

بقلم :: وسن فوزي منصور

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات