المجالس الحسينية في زمن كورونا

 

( فلأندبنّك صباحاً ومساءً ولأبكينّ عليك بدل الدموع دماً)

قال –تعالى-: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (36) سورة التوبة.

ان شهر محرم من الاشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال والظلم
لكن شاءت الاقدار أن لا يكون شهر محرم من ألاشهر الحرم الأربعة فقط، حيث لا يجوز فيه الظلم والاعتداء وحسب، بل أضحى شهر حزن وألم وبكاء، لاسيما في العاشر منه. ففي العاشر من هذا الشهر، سنة (61 ه) جرت معركة من أعظم المعارك بين الكفر والايمان، بين الظلام والنور، بين الحق والباطل، وانتهت بأعظم مأساة عرفها تاريخ البشرية؛ فقد استشهد فيها الإمام الحسين أبن بنت رسول الله (صلى الله عليه واله ) وأهل بيته، وحُملت رؤوسهم على الرماح، وسُبيت نساؤهم وأطفالهم .

ولا شك أن تحول شهر محرم إلى يوم حزن وبكاء و إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين (عليه السَّلام) سنويا، له اسبابه ومبرراته الكثيرة ومنها ان الإمام الحسين (عليه السلام) هو أبن بنت النبي (صل الله عليه واله ) وهو خامس أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. وأنه كان امتداد لرسول الله، و إن الحسين عليه السلام هو امتداد لدين الله وشريعته، ورسالة الحسين هي امتداد لرسالة السماء، رسالة نبي الرحمة. وعليه؛ فهو ليس كغيره من الشهداء، حيث أن منزلته أرفع بكثير عن منزلة سائر الشهداء بل هو سيد الشهداء . لأنه لم يكتف بمواجهة الحاكم الطاغي والتضحية بنفسه الغالية، بل واجه الطغيان كله بنفسه وأسرته الكريمة، فضحى بها وبأولاده وأصحابه من أجل ذلك.

كما أن الإمام الحسين(عليه السلام) استشهد هو وأصحابه من أجل دين الإسلام، وصلاح الأمة، وهذا هو الهدف الذي أشار إليه الإمام الحسين، حين عزم على الخروج إلى العراق قال: (والله إني لم أخرج أشرا ولا بطرا إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي) .
واستشهد الإمام الحسين وأصحابه لتكون دماؤهم القربان الذي حفظ دين محمد (ص) من الانحراف، استشهد بعد أن دوت صرخته في أقطار السموات والأرض (إن كان دين محمد لم يستقم—إلا بقتلي يا سيوف خذيني) .

وبناء على ذلك؛ فإن إحياء ذكرى الامام الحسين (عليه السَّلام) إنما هو إحياء لقضية الإسلام والأمة، والتي يجب ان تستمر الى يوم القيامة

ان هذا العام يختلف عن الاعوام السابقة فقد اجتاحت جائحة كورونا العالم باسره
وسببت بتعطيل الحياة في الكثير من جوانبها وجعلت الناس محجورين في بيوتهم واوقفت كل النشاطات الاجتماعية والاقتصادية واعتقد الكثير ان ظلها سينعكس ايضا على الشعائر الحسينية فيسبب تقيدها او إلغائها .
ولكن على خلاف ما يُتصوَّر، فإنَّ جائحة كورونا ـ كوفيد١٩، لم تستطع إحداث أي عرقلة للعزاء والمجالس الحسينية، بل أصبحت فرصة استثنائية لإقامتها على مستوى أكبر من السابق، وهذا من خصائص وطبيعة الشعائر والعزاء الحسيني وانسيابيته التي لا تعرف حدًّا ولا قيدًا، وهي فوق كل الاعتبارات، لما لها من قدرة على التجدّد والتوهج في كل مكان وزمان، وفي جميع المجالات، فهي متصفة بالحيوية لا الجمود، ولم يستطع أن يقف أمامها أي صاحب قرار وتحت أي مسمّى وعنوان كان أو يكون.

فكما أنّها كانت متحرِّرة من قبل من سطوات الطغاة والحاكمين الذين قطعوا الأيدي والأرجل وسلبوا الأرواح، فإنّها متحرِّرة أيضًا عن أية جائحةً ووباء، ذلك لأنّها هي الجائحة الكبرى والملحمة العظمى والسيل العرِم الذي يمكث في الأرض، وما عداه فيذهب جفاءً

وفي هذا الصدد تتعدد أنواع الإبداع الذي يقوم به القائمون على العزاء الحسيني في هذه الظروف؛ من تجهيز كل يابسة وخضراء وصبغها بلون السواد والعزاء، ناهيك عن استخدام التقنية الحديثة لهذا الغرض.

وهنالك صورة من هذا الإبداع حريٌّ أن يُحتذى بها في كل مكان قد قُيِّد بالحظر والحجر؛ وهو أن تكون المواكب والحسينيات وهيئات العزاء قائمةٌ على مدى ٢٤ ساعة، فبما أنّها مقيّدة بالحضور المحدود والمسافات المحدّدة، فينبغي للمشاركين أن يدخلوا حسب العدد المسموح فيستمعون ويشاركون ويمارسون العزاء ويتبرّكون بالزاد الحسيني، ثم يغادرون المجلس، فتدخل المجموعة الأُولى من المعزين ثم الثانية فالثالثة فالرابعة وهكذا..

وهذا يتطلب تعاون وتكاتف من القائمين على هذه المجالس ليقوموا بواجبهم وخدمتهم للحسين ليلا ونهارا ، وكأنَّهم يرسمون لوحة فنيّة حيّة يجسدون فيها هذه العبارة من زيارة الناحية الشريفة على لسان ولي العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف: “فلأندبنّك صباحًا ومساءً..”، وبهذا قد ضرب المعزون الحسينيون أروع مثل وأرقى صورة للجميع، ويكونوا قدوة وأُسوة للمجتمع في سائر مجالات الحياة الاجتماعية، فهم في

نفس الوقت الذي قد ألزموا فيه أنفسهم بالتوصيات الطبية والصحية فإنّهم قد حرّروا أنفسهم من جميع القيود
هذه خدمة عاشوراء ولا أحد قادر على محاربتها، ـ وإن اختلفنا أو توقفنا عند بعض الأساليب أو الأنماط ،

وهاهي المواكب الحسينية التي تنطلق من كل مكان، تجوب الشوارع والساحات، وهي تتوشح بالسواد تعبيرا عن حزنها وألمها، تسير في تنظيم رائع لا مثيل له ملتزمة بكل الضوابط الصحيحة ومتحديه لكل جانحة او وباء ، وهي تندب ذلك الجسد الذي قضى على أرض كربلاء، وهٌشمت ضلوعه خيل الطغاة. مناديه لبيك يا حسين لبيك يا حسين .

منى السعيدي/ مجمع المبلغات فرع البصرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات