رصاصةٌ وقلم

 

كعادتي كلُّ مساءٍ أُتابعُ الأخبارَ عبرَ التلفازِ ، فلقد حفظتُ مواعيدها ، وإذا بخبرٍ عاجلٍ ؛
تم أغتيال ……. أمامَ بيته .
فسقطَ جهازُ التّحكمِ من يدي ، ولا أعلمُ ما الذي دهاني .
وكأنِّي سمعتُ دويَ ذلكَ الرصاصِ حقيقةً وليس عن طريقِ الأخبارِ .
نعم ، فهي نفسُ تلكَ الرصاصةِ التي أخترقتْ قلبَ أبي عندما كنتُ صغيراً ، ولم أفهم حقيقةَ الأمرِ في حينها .

لم يخطرْ ببالي أنْ يكونَ صباحُ ذلكَ اليوم الذي ودّعَنا أبي فيهِ هو آخرُ صباحٍ أرى فيه وجههُ ؛ وتلكَ القبلةُ التي إلى الآن أستشعرُ طعمَها كلَّما رأيتُ طفلاً بأحضانِ أبيه ، كانتْ آخرُ تذكارٍ منهُ .
لقد قطعَ لي وعداً بأنَّهُ سيأخذني معهُ في اليومِ التالي ؛ لأنِّي كنتُ أتعلّقُ بهِ ليأخذَني معهُ إلى عملِه ؛ لكنَّهُ أبى ذلك.

لا أعلمْ لعلّهُ كانَ لا يريدني أنْ أرى القاتلَ ، فلم يُخلفْ وعداً قطعهُ لي ، تلكَ كانتْ المرةَ الأولى والأخيرة التي أخلفَ وعدهُ .

تلكَ الرصاصةُ التي حوّلتْ حياتي في أوّل الأمرِ إلى جحيمِ ، فصوتُها ما زالَ يرنُّ في أُذني .
إنّها الساعةُ السادسةُ مساءً ، موعدُ وصولِ أبي للبيتِ ، ولم أعلمْ بأنّ أبي كانَ على موعدٍ مع رصَاصةِ غدرٍ .
دقتْ الساعةُ السادسةُ مساءً ، ومعها دويُّ إطلاقةٍ ناريةٍ ، خرجَ الجميعُ الى بابِ الدارِ
وإذا بأبي ملقىً على الأرضِ ، والدماءُ تسيلُ منهُ كالميزابِ ، فرميتُ بنفسي على صدرِهِ صارخاً
أبي أبي أبي …..
كم ناديتْ….
ولكن دونَ جدوى
كم تمنيتُ أن يردَّ ولو بهمسةٍ ، ولكنَّ الرصاصةَ كانتْ دقيقةً في المواعيدِ .
ذلكَ اليوم المشؤوم ، وتلكَ الدماءُ ، ووجه أبي
صورٌ عالقةٌ في مخيلتي .
في بداية الأمر كنتُ حاقداً على جميعِ الناسِ ، خصوصاً أؤلئكَ الذين كانوا يحملون معهم جوّلاتِهم ليصوّروا جثةَ أبي المرميةَ على الأرضِ ، وصراخَ أمي وأخوتي .
آه كمْ هو مؤلمٌ الإحساسُ بالوحدةِ ، فبرغمِ تلكَ الأعداد الهائلة من الناسِ حولي ؛ لكنّي كنتُ وحيداً في حينها ، كنتُ أراهم بلا إنسانية ، لأنّهم يفكّرون في إنفسهم فقط . هم قتلةٌ ولكن من طرازٍ آخر .
يَرونَنا نتألم ، نصرخ
وهم يوثّقون
لم يوثّقوا الحادثَ ، بل وثّقوا آلامنا
والآن وقد كبرتُ .
وأنا في بدايةِ مشوارُ حياتي التي يتنّبأُ لها الجميعُ بالإزدهارِ .
فأنا اليوم أملكُ قلماً لامعاً ، كلّما دوى صوتُ رصاصِ الغدرِ ، صرخَ قلمي بكلمةِ الحق .

كثيراً ما أُفكرُ بذلكَ القاتل…. !
وأسألُ نفسي …
ما هو شعورهُ وهو يسرقُ حياةَ الناسِ ؟
هل هو إنسانٌ مثلنا ؟
هل لديهِ أولاد ؟
ألمْ يفكرْ أنَّه في يومٍ ما سُيقتل أمامَ أولاده ؟
ماذا يتوقعُ ممّن يَقتلُ آباءهم أو أخوتهم ؟

لا اعلمْ ماذا دهاني .
فتلكَ أسئلة ابحثَ عن جوابٍ لها ، كلّما أوشكتُ أنْ أنسى ، أيقظتها رصاصةٌ .
آه لو تعلمون
كيف كنتُ أُفكر عندما قُتل أبي ..!
فلقد كانَ جلُّ تفكيري محصوراً في البحث عن قاتلِ أبي لأقتلهُ أمامَ انظارِ أولاده ،
ولكنَّ العناية الإلهية أحاطتني فلعبتْ دورها ، خصوصاً وأنا من عائلةٍ تعشقُ علي أبن أبي طالب (عليه السلام ) ، فبيئتي سليمةٌ وأنسانيّتي رشيدة .
ولكن ماذا لو كنتُ في بيئة غير سليمة ، أو صحبني أصدقاءُ السوءِ وبثوا أفكارهِم السيئةِ في قرارة نفسي .
أتصوّرُ لو كنتُ كذلك ؛ لغدوتُ قاتلاً محترفاً بسببِ رصاصة جائرة .

فمتى نغلقُ أبوابنا في وجه الرصاصِ الغادرِ ؟
متى ننهي سرقةُ الأحلامِ ؟

فليعلمَ قاتلُ أبي ، وكلُّ القتلة .
بأن لنا ثأراً سنسترجعهُ منهم بالقلمِ
تسرقون الحياةَ برصاصِكم
ونعيدها بالأقلامِ الموالية لأمير المؤمنين (عليه السلام ).
لا دينَ لمن يغدرُ ، ولا دينَ لمن يحرّضُ على القتلِ، ولا دينَ لقلم لا ينطقْ بالحقِ .

أبي ….. وكلُّ مغدور ظلماً وعدواناً سأثأرُ لكَ بقلمي ، ولن أكونَ مجرماً
سأكتبُ بقلمي
قلمٌ مداده الحق اقوى من صوتِ الرصاصِ.

بقلم // وجدان الشوهاني

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

التخطي إلى شريط الأدوات